الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (174): {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)}{إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب} المشتمل على فنون الأحكام التي من جملتها أحكام المحللات والمحرمات، والآية نزلت كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في علماء اليهود كانوا يصيبون من سفلتهم هدايا، وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم، فلما بعث من غيرهم كتموا وغيروا صفته صلى الله عليه وسلم حتى لا يتبع فتزول رياستهم وتنقطع هداياهم {وَيَشْتَرُونَ بِهِ} أي يأخذون بدله في نفس الأمر، والضمير للكتاب أو لما أنزل أو للكتمان {ثَمَنًا قَلِيلًا} أي عوضًا خقيرًا.{أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار} إما في الحال كما هو أصل المضارع لأنهم أكلوا ما يتلبس بالنار وهو الرشا لكونها عقوبة لها فيكون في الآية استعارة تمثيلية بأن شبه الهيئة الحاصلة من أكلهم ما يتلبس بالنار بالهيئة المنتزعة من أكلهم النار من حيث إنه يترتب على أكل كل منهما من تقطع الأمعاء والألم ما يترتب على الآخر، فاستعمل لفظ المشبه به في المشبه، وإما في المآل، أي لا يأكلون يوم القيامة إلا النار فالنار في الاحتمالين مستعمل في معناه الحقيقي، وقيل: إنها مجاز عن الرشا إذا أريد الحال، والعلاقة السببية والمسببية وحقيقة إذا أريد المآل، ولا يخفى أن الأول هو الأليق قام الوعيد، والجار والمجرور حال مقدرة، أي: ما يأكلون شيئًا حاصلًا في بطونهم إلا النار إذ الحصول في البطن ليس مقارنًا للأكل، وبهذا التقدير يندفع ضعف تقديم الحال على الاستثناء، ولا يحتاج إلى القول بأنه متعلق بيأكلون والمراد في طريق بطونهم كما اختاره أبو البقاء، والتقييد بالبطون لإفادة الملء لا للتأكيد كما قيل به والطرفية بلفظة في وإن لم تقتض استيعاب المظروف الظرف، لكنه شاع استعمال ظرفية البطن في الاستيعاب كما شاع ظرفية بعضه في عدمه كقوله:{وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله يَوْمَ القيامة} أي كلام رحمة كما قال الحسن فلا ينافي سؤاله سبحانه إياهم، وقيل: لا يكلمهم أصلًا لمزيد غضبه جل جلاله عليهم، والسؤال بواسطة الملائكة. {وَلاَ يُزَكّيهِمْ} أي لا يطهرهم من دنس الذنوب، أو لا يثنى عليهم. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي مؤلم، وقد جاءت هذه الأخبار مرتبة بحسب المعنى، لأنه لما ذكر سبحانه اشتراءهم بذلك الثمن القليل وكان كناية عن مطاعمهم الخبيثة الفانية بدأ أولًا في الخبر بقوله تعالى: {مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار} ثم قابل كتمانهم الحق وعدم التكلم به بقوله تعالى: {وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله} تعالى، وابتنى على كتمانهم واشترائهم بما أنزل الله تعالى ثمنًا قليلًا أنهم شهود زور وأحبار سوء آذوا بهذه الشهادة الباطلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآلموه فقوبلوا بقوله سبحانه: {وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وبدأ أولًا: بما يقابل فردًا فردًا، وثانيًا: بما يقابل المجموع. .تفسير الآية رقم (175): {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)}{أُولَئِكَ الذين اشتروا} بسبب كتمانهم الحق للمطامع الدنية، والأغراض الدنيوية {الضلالة بالهدى} في الدنيا {والعذاب بالمغفرة} في الآخرة، والجملة إما مستأنفة فإنه لما عظم وعيد الكاتمين كان مظنة أن يسأل عن سبب عظم وعيدهم فقيل: إنهم بسبب الكتمان خسروا الدنيا والآخرة، وإما خبر بعد خبر لأن، والجملة الأولى لبيان شدة وعيدهم، وهذه لبيان شناعة كتمانهم.{فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار} أي ما أشد صبرهم، وهو تعجيب للمؤمنين من ارتكابهم موجباتها من غير مبالاة وإلا فأي صبر لهم، وما في مثل هذا التركيب قيل: نكرة تامة وعليه الجمهور وقيل: استفهامية ضمنت معنى التعجب وإليه ذهب الفراء وقيل: موصولة وإليه ذهب الأخفش وحكي عنه أيضًا أنها نكرة وموصوفة وهي على هذه الأقوال في محل رفع على الابتداء، والجملة خبرها، أو خبرها محذوف إن كانت صفة أو صلة، وتمام الكلام في كتب النحو..تفسير الآية رقم (176): {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)}{ذلك} أي مجموع ما ذكر من أكل النار وعدم التكليم والتزكية والعذاب المرتب على الكتمان. {بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب بالحق} أي بسبب أن الله تعالى نزل القرآن، أو التوراة متلبسًا بالحق ليس فيه شائبة البطلان أصلا فرفضوه بالتكذيب أو الكتمان. {وَإِنَّ الذين اختلفوا فِي الكتاب} أي في جنسه بأن آمنوا ببعض كتب الله تعالى وكفروا ببعض أو في التوراة، ومعنى {اختلفوا} تخلفوا عن سلوك طريق الحق فيها، أو جعلوا ما بدلوه خلفًا عما فيها أو في القرآن واختلافهم فيه قول بعضهم: إنه سحر، وبعضهم إنه شعر، وبعضهم إنه أساطير الأولين. {لَفِى شِقَاقٍ} أي خلاف {بَعِيدٍ} عن الحق موجب لأشد العذاب، وهذه الجملة تذييل لما تقدم معطوفة عليه. ومن الناس من جعل الواو للحال والسببية المتقدمة راجعة إليها والتذييل أدخل في الذم كما لا يخفى..تفسير الآية رقم (177): {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)}{لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب}. البر اسم جامع لأنواع الخير والطاعات المقربة إلى الله تعالى والخطاب لأهل الكتابين والمراد من {قِبَلَ المشرق والمغرب} السمتان المعينان، فإن اليهود تصلي قبل المغرب إلى بيت المقدس من أفق مكة، والنصارى قبل المشرق والآية نزلت ردًا عليهم حيث أكثروا الخوض في أمر القبلة وادعى كل طائفة حصر البر على قبلته ردًا على الآخر فرد الله تعالى عليهم جميعًا بنفي جنس البر عن قبلتهم لأنها منسوخة، فتعريفه للجنس لإفادة عموم النفي لا للقصر إذ ليس المقصود نفي القصر أو قصر النفي. ويحتمل أن يكون الخطاب عامًا لهم وللمسلمين فيكون عودًا على بدء فإن الكلام في أمر القبلة وطعنهم في النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كان أساس الكلام إلى هذا القطع، فجعل خاتمة كلية أجمل فيها ما فصل. والمراد من ذكر المشرق والمغرب التعميم لا تعيين السمتين وتعريف البر حينئذ إما للجنس فيفيد القصر، والمقصود نفي اختصاص البر بشأن القبلة مطلقًا على ما يقتضيه الحال من كثرة الاشتغال والاهتمام بذلك والذهول عما سواه، وإما لعهد أي ليس البر العظيم الذي أكثرتم الخوض فيه وذهلتم عما سواه ذلك، وقدم المشرق على المغرب مع تأخر زمان الملة النصرانية رعاية لما بينهما من الترتيب المتفرع على ترتيب الشروق والغروب، وقرأ حمزة وحفص البر بالنصب والباقون بالرفع ووجه الأول: أن يكون خبرًا مقدما كما في قوله:وحسن ذلك أن المصدر المؤول أعرف من المحلى باللام لأنه يشبه الضمير من حيث إنه لا يوصف ولا يوصف به والأعرف أحق بالاسمية ولأن في الاسم طولًا فلو روعي الترتيب المعهود لفات تجاوب أطراف النظم الكريم، ووجه الثانية: أن كل فريق يدعي أن البر هذا فيجب أن يكون الرد موافقًا لدعواهم وما ذلك إلا بكون البر اسمًا كما يفصح عنه جعله مخبرًا عنه في الاستدراك. وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: {لَّيْسَ البر} بالنصب بأن تولوا بالباء {ولكن البر مَنْ ءامَنَ بالله} تحقيق للحق بعد بيان بطلان الباطل، وال في البر إما للجنس فيكون القصر ادعائيًا لكمال ذلك الجنس في هذا الفرد، وإما للعهد أي ما ينبغي أن يهتم به ويعتني بشأنه ويجد في تحصيله، والكلام على حذف مضاف أي برّ من آمن إذ لا يخبر بالجثة عن المعنى ويجوز أن لا يرتكب الحذف ويجعل المصدر عنى اسم الفاعل أو يقال باطلاق البر على البار مبالغة، والأول أوفق لقوله: {لَّيْسَ البر} وأحسن في نفسه لأنه كنزع الخف عند الوصول إلى الماء ولأن المقصود من كون ذي البر من آمن إفادة أن البر إيمانه فيؤول إلى الأول.والمراد بهذا الإيمان إيمان خال عن شائبة الإشراك لا كإيمان اليهود والنصارى القائلين عزيز ابن الله والمسيح ابن الله وقرأ نافع وابن عامر {ولكن} بالتخفيف، وقرأ بعضهم البار بصيغة اسم الفاعل.{واليوم الاخر} أي المعاد الذي يقول به المسلمون وما يتبعه عندهم {والملئكة} أي وآمن بهم وصدق بأنهم عباد مكرمون لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة ومنهم المتوسطون بينه تعالى وبين أنبيائهم عليهم الصلاة والسلام بإلقاء الوحي وإنزال الكتب {والكتاب} أي جنسه فيشمل جميع الكتب الإلهية لأن البر الإيمان بجميعها وهو الظاهر الموافق لقرينه ولما ورد في الحديث: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله» أو القرآن لأنه المقصود بالدعوة والكامل الذي يستأهل أن يسمى كتابًا والإيمان به الإيمان بجميع الكتب لكونه مصدقًا لما بين يديه، وقيل: التوراة ويبعده عدم ظهور القرينة المخصصة لها وأن الإيمان بها لا يستلزم الإيمان بالجميع إلا باعتبار استلزامه الإيمان بالقرآن، والإيمان بالكتب أن يؤمن بأنها كلام الرب جل شأنه منزهة عن الحدوث منزلة على ذويها ظاهرة لديهم حسا اقتضته الحكمة من اللغات {والنبين} أي جميعهم من غير تفرقة بين أحد منهم كما فعل أهل الكتابين والإيمان بهم أن يصدق بأنهم معصومون مطهرون وأنهم أشرف الناس حسبًا ونسبًا وأن ليس فيهم وصمة ولا عيب منفر ويعتقد أن سيدهم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم وأن شريعته ناسخة لجميع الشرائع والتمسك بها لازم لجميع المكلفين إلى يوم القيامة.{والنبيين وَءاتَى المال على حُبّهِ} حال من ضمير {ءاتى}، والضمير المجرور للمال أي أعطى المال كائنًا على حب المال والتقييد لبيان أفضل أنواع الصدقة فقد أخرج البخاري. ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح تأمل البقاء وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا لفلان كذا الا وقد كان لفلان» وفي هذا إيذان بأن درجات الثواب تتفاوت حسب تفاوت المراتب في الحب حتى إن صدقة الفقير والبخيل أفضل من صدقة الغني والكريم إلا أن يكونا أحب للمال منهما، ويؤيد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «أفضل الأعمال أحمزها» وجوز رجوع الضمير لله تعالى أو للمصدر المفهوم من الفعل، والتقييد حينئذ للتكميل، وبيان اعتبار الإخلاص أو طيب النفس في الصدقة ودفع كون إيتاء المال مطلقًا برًا، والأول: هو المأثور عن السلف الصالح، ولعله المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.{ذَوِى القربى} مفعول أول لـ {أتى} قدم عليه مفعوله الثاني للاهتمام أو لأن فيه مع ما عطف عليه طولا لو روعي الترتيب لفات تجاوب الأطراف، وهو الذي اقتضى تقديم الحال أيضًا، وقيل: هو المفعول الثاني، والمراد بـ {ذَوِى القربى} ذوو قرابة المعطي لكن المحاويج منهم لا مطلقًا لدلالة سوق الكلام، وعد مصارف الزكاة على أن المراد الخير والصدقة وإيتاء الأغنياء هبة لا صدقة، وقدم هذا الصنف لأن إيتاءهم أهم فقد صح عن أم كلثوم بنت عقبة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح» وأخرج أحمد والترمذي وغيرهما عن سلمان بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة».{واليتامى} عطم على {ذَوِى القربى} وقيل: على {القربى} إذ لا يصح إيصال المال إلى من لا يعقل فالمعطي حينئذ كافلهم لأجلهم، وفيه ما لا يخفى {والمساكين} جمع مسكين وهو الدائم السكون لما أن الحاجة أسكنته بحيث لا حراك به أو دائم السكون والالتجاء إلى الناس، وتخصيصه بمن لا شيء له أو بمن لا يملك ما يقع موقعًا من حاجته خارج عن مفهومه {وابن السبيل} أي المسافر كما قاله مجاهد وسمي بذلك لملازمته الطريق في السفر أو لأن الطريق تبرزه فكأنها ولدته وكأن إفراده لانفراده عن أحبابه ووطنه وأصحابه فهو أبدًا يتوق إلى الجمع، ويشتاق إلى الربع، والكريم يحن إلى وطنه حنين الشارف إلى عطنه، أو لأنه لما لم يكن بين أبناء السبيل، والمعطي تعارف غالبًا يهون أمر الاعطاء ويرغب فيه أفردهم ليهون أمر إعطائهم وليشير إلى أنهم وإن كانوا جمعًا ينبغي أن يعتبروا كنفس واحدة فلا يضجر من إعطائهم لعدم معرفتهم وبعد منفعتهم فليفهم، وروي عن ابن عباس وقتادة وابن جبير أنه الضيف الذي ينزل بالمسلمين {والسائلين} أي الطالبين للطعام سواء كانوا أغنياء إلا أن ما عندهم لا يكفي لحاجتهم أو فقراء كما يدل عليه ظاهر ما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن أبي حاتم عن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «للسائل حق وإن جاء على فرس» فإن الجائي على فرس يكون في الغالب غنيًا، وقيل: أرد المساكين الذين يسألون فتعرف حالهم بسؤالهم، والمساكين السابق ذكرهم الذين لا يسألون وتعرف حاجتهم بحالهم وإن كان ظاهرهم الغنى وعليه يكون التقييد في الحديث لتأكيد رعاية حق السائل وتحقيق أن السؤال سبب للاستحقاق، وإن فرض وجوده من الغني كالقرابة واليتم.{وَفِي الرقاب} متعلق بـ {أتى} أي آتى المال في تخليص الرقاب وفكاكها عاونة المكاتبين، أوفك الأسارى، أو ابتياع الرقاب لعتقها، والرقبة مجاز عن الشخص وإيراد كلمة في للإيذان بأن ما يعطى لهؤلاء مصروف في تخليصهم لا يملكونه كما في المصارف الأخر {وَأَقَامَ الصلاة} عطف على صلة من والمراد بالصلاة المفروضة كالزكاة في {وَءاتَى الزكواة} بناءًا على أن المراد بما مر من إيتاء المال نوافل الصدقات وقدمت على الفريضة مبالغة في الحث عليها، أو حقوق كانت في المال غير مقدرة سوى الزكاة، أخرج الترمذي والدارقطني وجماعة عن فاطمة بنت قيس قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في المال حق سوى الزكاة» ثم قرأ الآية وأخرج البخاري في تاريخه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه نحو ذلك، واختلف هل بقي هذا الحق أم لا؟ فذهب قوم إلى الثاني واستدلوا بما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعًا نسخ الأضحى كل ذبح، ورمضان كل صوم؛ وغسل الجنابة كل غسل، والزكاة كل صدقة وقال جماعة بالأول لقوله تعالى: {وَفِى أموالهم حَقٌّ لَّلسَّائِلِ والمحروم} [الذاريات: 19] ولقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمن بالله واليوم الآخر من بات شبعًا وجاره طاو إلى جنبه» وللإجماع على أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضرورة وجب على الناس أن يعطوا مقدار دفع الضرورة وإن لم تكن الزكاة واجبة عليهم ولو امتنعوا عن الأداء جاز الأخذ منهم وأجابوا عن الحديث بأنه غريب معارض، وفي إسناده المسيب بن شريك وهو ليس بالقوي عندهم وبأن المراد أن الزكاة نسخت كل صدقة مقدرة، وجوز أن يكون المراد بما مر الزكاة المفروضة أيضًا ولا تكرار لأن الغرض مما تقدم بيان مصارفها، ومن هذا بيان أدائها والحث عليها وترك ذكر بعض المصارف لأن المقصود هاهنا بيان أبواب الخير دون الحصر، وقدم بيان المصرف اهتمامًا بشأنه فإن الصدقة إنما تعتبر إذا كانت في مصرفها ومحلها كما يدل عليه قوله تعالى: {قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ فللوالدين والاقربين} [البقرة: 215] وعلى هذا يتعين أن يراد بالسائلين الفقراء.{والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عاهدوا} عطف على {مَنْ ءامَنَ} ولم يقل وأوفى كما قبله إشارة إلى وجوب استقرار الوفاء، وقيل: رمزًا إلى أنه أمر مقصود بالذات، وقيل: إيذانًا غايرته لما سبق فإنه من حقوق الله تعالى والسابق من حقوق الناس، وعلى هذا فالمراد بالعهد ما لا يحلل حرامًا ولا يحرم حلالًا من العهود الجارية فيما بين الناس، والظاهر حمل العهد على ما يشمل حقوق الحق وحقوق الخلق، وحذف المعمول يؤذن بذلك، والتقييد بالظرف للإشارة إلى أنه لا يتأخر إيفاؤهم بالعهد عن وقت المعاهدة، وقيل: للإشارة إلى عدم كون العهد من ضروريات الدين وليس للتأكيد كما قيل: به {والصابرين فِي البأساء والضراء} نصب على المدح بتقدير أخص أو أمدح وغير سبكه عما قبله تنبيها على فضيلة الصبر ومزيته على سائر الأعمال حتى كأنه ليس من جنس الأول، ومجي القطع في العطف مما أثبته الأئمة الأعلام ووقع في الكتاب أيضًا واستحسنه الأجلة وجعلوه أبلغ من الاتباع وقد جاء في النكرة أيضًا كقول الهذلي: و البأساء البؤس والفقر، والضراء السقم والوجع وهما مصدران بنيا على فعلاء وليس لهما أفعل لأن أفعل وفعلاء في الصفات والنعوت ولم يأتيا في الأسماء التي ليست بنعوت وقرئ {والصابرون} كما قرئ {والموفين}.{وَحِينَ البأس} أي وقت القتال وجهاد العدو وهذا من باب الترقي في الصبر من الشديد إلى الأشد لأن الصبر على المرض فوق الصبر على الفقر والصبر على القتال فوق الصبر على المرض، وعدى الصبر على الأولين بفي لأنه لا يعد الإنسان من الممدوحين إذا صبر على شيء من ذلك إلا إذا صار الفقر والمرض كالظرف له وأما إذا أصاباه وقتًا مّا وصبر فليس فيه مدح كثير إذ أكثر الناس كذلك وأتى بحين في الأخير لأن القتال حالة لا تكاد تدوم في أغلب الأوقات.{أُولَئِكَ الذين صَدَقُوا} في إيمانهم أو طلب البر. {وَأُولَئِكَ هُمُ المتقون} عذاب الله تعالى بتجنب معاصيه وامتثال أوامره، وأتى بخبر أولئك الأولى: موصولًا بفعل ماض أيذانًا بتحقق اتصافهم به وإن ذلك قد وقع منهم واستقر، وغاير في خبر الثانية: ليدل على أن ذلك ليس تجدد بل صار كالسجية لهم، وأيضًا لو أتى به على طبق سابقه لما حسن وقوعه فاصلة، هذا والآية كما ترى مشتملة على خمس عشرة خصلة وترجع إلى ثلاثة أقسام، فالخمسة الأولى منها تتعلق بالكمالات الإنسانية التي هي من قبيل صحة الاعتقاد، وآخرها قوله: {والنبيين} وافتتحها بالإيمان بالله واليوم الآخر لأنهما إشارة إلى المبدأ والمعاد اللذين هما المشرق والمغرب في الحقيقة فليتئم مع ما نفاه أولًا غاية الالتئام، والستة التي بعدها تتعلق بالكمالات النفسية التي هي من قبيل حسن معاشرة العباد وأولها {لَّيْسَ البر} وآخرها {وَفِي الرقاب} والأربعة الأخيرة تتعلق بالكمالات الإنسانية التي هي من قبيل تهذيب النفس وأولها {لَّيْسَ البر} وآخرها {وَحِينَ البأس} ولعمري من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان ونال أقصى مراتب الإيقان.ومن باب التأويل: {لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ} مشرق عالم الأرواح ومغرب عالم الأجساد فإن ذلك تقيد واحتجاب {ولكن البر} بر الموحد الذي آمن بالله والمعاد في مقام الجمع وشاهد الجمع في تفاصيل الكثرة ولم يحتجب بالجمع عن التفصيل الذي هو باطن عالم الملائكة وظاهر عالم النبيين والكتاب الجامع بين الظاهر والباطن {وَءاتَى} العلم الذي هو مال القلب مع كونه محبوبًا ذوي قربى القوى الروحانية القريبة منه، ويتامى القوى النفسانية المنقطعة عن الأب الحقيقي وهو نور الروح، ومساكين القوى الطبيعية التي لم تزل دائمة السكون إلى تراب البدن وأبناء السبيل السالكين إلى منزل الحق، والسائلين الطالبين بلسان استعدادهم ما يكون غذاء لأرواحهم، وفي فك رقاب عبدة الدنيا وأسراء الشهوات بالوعظ والإرشاد، وأقام صلاة الحضور، وآتى ما يزكي نفسه بنفي الخواطر ومحو الصفات، والموفون بعهد الأزل بترك المعارضة في العبودية والإعراض عما سوى الحق في مقام المعرفة، والصابرين في بأساء الافتقار إلى الله تعالى دائمًا، وضراء كسر النفس، وحين بأس محاربة العدو الأعظم {أُولَئِكَ الذين صَدَقُوا} الله تعالى في السير إليه وبذل الوجود {وَأُولَئِكَ هُمُ المتقون} عن الشرك المنزهون عن سائر الرذائل.
|