الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» **
ولما ظهر لسليمان آغا الغيظ والتغير من القبودان خاف على نفسه أن يبطش به وعرف منه أن المانع له من ذلك غياب السلحدار عند المترجم لأنه قال له وأين سلحداري قال هو عند الألفي بالبحيرة فقال اذهب فأتني به وأحضر صحبته وكان موسى باشا المتولي قد حضر أيضًا فما صدق سليمان آغا بقوله ذلك وخلاصه من بين يديه فركب في الوقت وخرج من الإسكندرية فما هو إلا بعد عنها مقدار غلوة إلا والسلحدار قادم إلى سكندرية فسأله إلى أين يذهب فقال إن مخدومك أرسلني في شغل وها أنا راجع إليكم وذهب عند المترجم ولم يرجع. وفي أثناء هذه الأيام كان المترجم يحارب دمنهور وبعث إليه محمد علي باشا التجريدة العظيمة التي بذل فيها جهده وفيها جميع عساكر الدلاة وطاهر باشا ومن معه من عساكر الأرنؤد والأتراك وعسكر المغاربة فحاربهم وكسرهم وهزمهم شر هزيمة حتى ألقوا بأنفسهم في البحر ورجعوا في أسوأ حال فلو تجاسر المترجم وتبعهم لهرب الباقون من البلدة وخرجوا جميعًا على وجوههم من شدة ما داخلهم من الرعب ولكن لم يرد الله ذلك ولم يجسروا للخروج عليه بعد ذلك. وما تنحت عنه عشيرته ولم يلبوا دعوته وأتلفوا الطبخة وسافر القبودان وموسى باشا من ثغر سكندرية على الصورة المذكورة استأنف المترجم أمرًا آخر وراسل الإنكليز يلتمس منهم المساعدة وأن يرسلوا له طائفة من جنودهم ليقوى بهم على محاربة الخصم كما التمس منهم في العام الماضي فاعتذروا له بأنهم صلح مع العثماني وليس في قانون الممالك إذا كانوا صلحًا أن يتعدوا على المتصادقين معهم ولا يوجهون نحوها عساكر إلا بإذن منهم أو بالتماس المساعدة في أمر مهم فغاية ما يكون المكالمة والترجي ففعلوا وحصل ما تقدم ذكره ولم يتم الأمر فلما خاطبهم بعد الذي جرى صادف ذلك وقوع الغرة بينهم وبين العثماني فأرسلوا إلى المارجم يعدون بإنفاذ ستة آلاف لمساعدته فأقام بالبحيرة ينتظر حضورهم نحو ثلاثة شهور وكان ذلك أوان القيظ وليس ثم زرع ولا نبات فضاقت على جيوشهم الناحية وقد طال انتظاره للإنكليز فتشكى العربان المجتمعون عليه وغيرهم لشدة ما هم فيه من الجهد وفي كل حين يعدهم بالفرج ويقول لهم اصبروا ولم يبق إلا القليل فلما اشتد بهم الجهد اجتمعوا إليه وقالوا له إما أن تنتقل معنا إلى ناحية قبلي فإن أرض الله واسعة وإما أن تأذنلنا في الرحيل في طلب القوت فما وسعه إلا الرحيل مكظومًا مقهورًا من معاندة الدهر في بلوغ المآرب الأول مجيء القبودان وموسى باشا عل هذه الهيئة والصورة ورجوعهما على غير طائل الثاني عدم ملكه دمنهور وكان قصده أن يجعلها معقلًا ويقيم بها حتى تأتيه النجدة الثالث تأخر مجيء النجدة حتى قحطوا واضطروا إلى الرحيل الرابع وهو أعظمها مجانبة إخوانه وعشيرته وخذلانهم له وامتناعهم عن الانضمام إليه فارتحل من البحيرة بجيوشه ومن يصحبه من العربان حتى وصل إلى الأخصاص فنادى محمد علي باشا على العساكر بالخروج ولا يتأخر منهم واحد فخرجوا ليلًا ونهارًا حتى وصلوا إلى ساحل بولاق وعدوا إلى بر أنبابة وجيشوا بظاهرها وقد وصل المترجم إلى كفر حكيم يوم الثلاثاء ثامن عشر القعدة وانتشرت جيوشه بالبر الغربي ناحية أنبابة والجيزة وركب الباشا وأصناف العساكر ووقفوا على ظهر خيولهم واصطفت الرجالة ببنادقهم وأسلحتهم ومر المترجم في هيئة عظيمة هائلة وجيوش تسد الفضاء وهم مرتبون طوابير ومعهم طبول وصحبته قبائل العرب من أولاد علي والهنادي وعربان الشرق في كبكة وزائدة والباشا والعسكر وقوف ينظرون إليهم من بعيد وهو يتعجب ويقول هذا طهماز الزمان وإلا إيش يكون ثم يقول للدلاة والخيالة تقدموا وحاربوا وأنا أعطيكم كذا وكذا من المال ويذكر لهم مقادير عظيمة ويرغبهم فلم يتجاسروا على الإقدام وصاروا باهتين ومتعجبين ويتناجون فيما بينهم ويتشاورون في تقدمهم وتأخرهم وقد أصابوه بأعينهم ولم يزل سائرًا حتى وصل إلى قريب قناطر شبرامنت فنزل علي علوة هناك وجلس عليها وزاد به الهاجس والقهر ونظر إلى جهة مصر وقال يا مصر انظري إلى أولادك وهم حولك مشتتين متباعدين مشردين واستوطنك أجلاف الأتراك واليهود وأراذل الأرنؤد وصاروا يقبضون خراجك ويحاربون أولادك ويقاتلون أبطالك ويقاومون فرسانك ويهدمون دورك ويسكنون قصورك ويفسقون بولدانك وحورك ويطمسون بهجتك ونورك ولم يزل يردد هذا الكلام وأمثاله وقد تحرك به خلط دموي وفي الحال تقايا دمًا وقال قضي الأمر وخلصت مصر لمحمد علي وما ثم من ينازعه ويغالبه وجرى حكمه على المماليك المصرية فما أظن أن تقوم لهم راية بعد اليوم ثم إنه أحضر أمراءه وأمر عليهم شاهين بك وأوصاه بخشداشينه وأوصاهم به وأن يحرصوا على دوام الألفة بينهم وترك التنازع الموجب للتفرق والتفاشل وأن يحذروا من مخادعة عدوهم وأوصاهم أنه إذا مات يحملونه إلى وادي البهنا ويدفنونه بجوار قبور الشهداء فمات في تلك الليلة وهي ليلة الأربعاء تاسع عشر ذي القعدة فلما مات غطوه وكفنوه وصلوا عليه وحملوه على بعير وأرسلوه إلى البهنا ودفنوه هناك بجوار الشهداء وانقضى نحبه فسبحان من له سرمدية البقاء وفي الحال حضر المبشر إلى محمد علي باشا وبشره بموت المترجم فلم يصدقه واستغرب ذلك وحبس البدوي الذي أتاه بالبشارة أربعة أيام وذلك لأن أتباعه كانوا كتموا أمر موته ولم يذيعوه في عرضيه والذي أشاع الخبر وأتى بالبشارة رفيق البدوي الذي حمله على بعيره ولما ثبت موته عند الباشا امتلأ فرحًا وسرورًا وكذلك خاصته ورفعوا رؤسهم وأحضر ذلك المبشر فألبسه فروة سمور وأعطاه مالًا وأمره أن يركب بتلك الخلعة ويشق بها من وسط المدينة ليراه أهل البلدة وشاع ذلك الخبر في الناس من وقت حضور المبشر وهم يكذبون ذلك الخبر ويقولن هذا من جملة تحيلاته فإنه لما سافر إلى بلاد الإنكليز لم يعلم بسفره أحد ولم يظهر سفره إلا بعد مضي أشهر فلذلك أمر الباشا ذلك المبشر أن يركب بالخلعة ويمر بها من وسط المدينة ومع ذلك استمروا في شكهم نحو شهرين حتى قويت عندهم القرائن بما حصل بعد ذلك فإنه لما مات تفرقت قبائل العربان التي كانت مجتمعة حوله وبعضهم أرسل يطلب أمانًا من الباشا وغير ذلك مما تقدم ذكره وخبره في ضمن ما تقدم وكان محمد علي باشا يقول ما دام هذا الألفي موجودًا لا يهنأ لي عيش ومثال أنا وهو مثال بهلوانين يلعبان على الحبل لكن هو في رجليه قبقاب فلما أتاه المبشر بموته قال بعد أن تحقق ذلك الآن طابت لي مصر وما عدت أحسب لغيره حسابًا. وكان المترجم أميرًا جليلًا مهيبًا محتشمًا مدبرًا بعيد الفكر في عواقب الأمور صحيح الفراسة إذا نظر في سحنة إنسان عرف حاله وأخلاقه بمجرد النظر إليه قوي الشكيمة صعب المراس عظيم البأس ذا غيرة حتى على من ينتمي إليه أو ينسب إلى طرفه يحب علو الهمة في كل شيء حتى أن التجار الذين يعاملهم في المشتروات لا يساومهم ولا يفاصلهم في أثمانها بل يكتبون الأثمان بأنفسهم كما يحبون ويريدون في قوائمهم ويأخذها الكاتب ليعرضها عليه فيمضي عليها ولا ينظر فيها ويرى أن النظر في مثل ذلك أو المحاققة فيه عيب ونقض يخل بالأمرية ولا تمضي السنة إلا والجميع قد استوفوا حقوقهم ويستأنفوا احتياجات العام الجديد ولذلك راج حال المعاملين له رواجًا عظيمًا لكثرة ربحهم عليه ومحاسبهم ومع ذلك يواسيهم في جملة أحبابه والمنتسبين إليه بإرسال الغلال لمؤونة بيوتهم وعيالهم وكساوى العيد وينتصر لأتباعه ولمن انتمى إليه ويجب لهم رفعة القدر عن غيرهم مع أنه إذا حصل من أحد منهم هفوة تخل بالمروءة عنفه وزجره فترى كشافه ومماليكه مع شدة مراسهم وقوة نفوسهم وصعوبتهم يخافونه خوفًا شديدًا ويهابون خطابه. ومن عجيب أمره ومناقبه التي انفرد بها عن غيره امتثال جميع قبائل العربان الكائنين بالقطر المصري لأمره وتسخيرهم وطاعتهم له لا يخالفونه في شيء وكان له معهم سياسة غريبة ومعرفة بأحوالهم وطبائعهم فكأنما هو مربي فيهم أو ابن خليفتهم أو صاحب رسالتهم يقومون ويقعدون لأمره مع أنه يصادرهم في أموالهم وجمالهم ومواشيهم ويحبسهم ويطلقهم ويقتل منهم ومع ذلك لا ينفرون منه وقد تزوج كثيرًا من بناتهم فالتي تعجبه يبقيها حتى يقضي وطره منها والتي لا توافق مزاجه يسرحها إلى أهلها ولم يبق في عصمته غير واحدة وهي التي أعجبته فمات عنها فلما بلغ العرب موته اجتمعت بنات العرب وصرن يندبنه بكلام عجيب تناقلته أرباب المغاني يغنون به على آلات اللهو المطربة وركبوا عليه أدوارًا وقوافي وغير ذلك والعجب منه رحمه الله أنه لما كان في دولتهم السابقة وينزل في كل سنة إلى شرقية بلبيس ويتحكم في عربانها ويسومهم العذاب بالقبض عليهم ووضعهم في الزناجير ويتعاون على البعض منهم بالبعض الآخر ويأخذ منهم الأموال والخيول والأباعر والأغنام ويفرض عليهم الفرض الزائدة ويمنعهم من التسلط على فلاحي البلاد ثم إنه لما رجع من بلاد الإنكليز وتعصب عليه البرديسي والعسكر وأحاطوا به من كل جانب فاختفى منهم وهرب إلى الوادي عند عشيبة البدوي فآواه وأخفاه وكتم أمره والبرديسي ومن معه يبالغون في الفحص والتفتيش وبذل الأموال والرغائب لمن يدل عليه أو يأتي به فلم يطمعوا في شيء من ذلك ولم يفشوا سره وقيدوا بالطرق الموصلة له أنفارًا منهم تحرس الطريق من طارق يأتي على حين غفلة وهذا من العجائب حتى كان كثير من الناس يقولون أنه يسخرهم أو معه سر يسخرهم به فلما مات تفرق الجميع ولم يجتمعوا على أحد بعده وذهبوا إلى أماكنهم وبعضهم طلب من الباشا الأمان وأما مماليكه وأتباعه فلم يفلحوا بعده وذهبوا إلى الأمراء القبليين فوجدوا طباعهم متنافرة عنهم ولم يحصل بينهم التئام ولا صفا كدر الفريقين من الآخر فانعزلوا عنهم إلى أن جرى ما جرى من صلحهم مع الباشا وأوقع بهم ما سيتلى عليك بعد أن شاء الله تعالى وبعد موت المترجم بنحو الأربعين يومًا وصلت نجدة الإنكليز إلى ثغر الإسكندرية وطلعوا إليه فبلغهم عند ذلك موت المذكور فلم يسهل بهم الرجوع فأرسلوا رسلهم إلى الجماعة المصريين ظانين أن فيهم أثر الهمة والنخوة يطلبونهم للحضور ويساعدهم الإنكليز على ردهم لمملكتهم وأوطانهم وكان محمد علي باشا حين ذاك بناحية قبلي يحاربهم فطلبهم للصلح معه وأرسل إليهم بعض فقهاء الأزهر وخادعهم وثبطهم فقعدوا عن الحركة وجرى ما جرى على طائفة الإنكليز كما سيتلى عليك خبره ثم عليهم بعد ذلك وكان أمر الله مفعولا. وكان للمترجم ولوع ورغبة في مطالعة الكتب خصوصًا العلوم الغريبة مثل الجفريات والجغرافيا والأسطرنوميا والأحكام النجومية والمناظرات الفلكية وما تدل عليه من الحوادث الكونية ويعرف أيضًا مواضع المنازل وأسماءها وطبائعها والخمسة المتحيرة وحركات الثوابت ومواقعها كل ذلك بالنظر والمشاهدة والتلقي على طريقة العرب من غير مطالعة في كتاب ولا حضور درس وإذا طالع أحد بحضرته في كتاب أو أسمعه ناضله مناضلة منضلع وناقشه مناقشة متطلع وله أيضًا معرفة بالأشكال الرملية واستخراجات الضمائر بالقواعد الحرفية وكان له في ذلك إصابات ومنها ما أخبرني به بعض أتباعه أنه لما وصل إلى ثغر سكندرية راجعًا من بلاد الإنكليز رسم شكلًا وتأمل فيه وقطب وجهه ثم قال إني أرى حادثًا في طريقنا وربما أني أفترق منكم وأغيب عنكم نحو أربعين يومًا فلذلك أحب أن يخفي أمره ويأتي على حين غفلة وكان البرديسي قد أقام بالثغر رقيبًا يوصل خبر وروده فلما وصل أرسل ذلك الرقيب ساعيًا في الحال وكان ما ذكرناه في سياق التاريخ بشتك بك من القصر وإرسال العسكر لملاقاة المترجم على حين غفلة ليقتلوه وهروبه واختفاؤه ثم ظهوره واجتماعهم عليه بعد انقضاء تلك المدة أو قريب منها وكان رحمه الله إذا سمع بإنسان فيه معرفة بمثل هذه الأشياء أحضره ومارسه فيها فإن رأى فيه فائدة أو مزية أكرمه وواساه وصاحبه وقربه إليه وأدناه وكان له مع جلسائه مباسطة مع الحشمة والترفع عن الهذيان والمجون وكان غالب إقامته بقصوره التي عمرها خارج مصر وهو القصر الكبير بمصر القديمة تجاه المقياس بشاطئ النيل والقصر الآخر الكائن بالقرب من زاوية الدمرداش والقصر الذي بجانب قنطرة المغربي على الخليج الناصري وكان إذا خرج من داره لبعض تلك القصور لا يمر من وسط المدينة وإذا رجع كذلك فسئل عن سبب ذلك فقال أستحي أن أمر من وسط الأسواق وأهل الحوانيت والمارة ينظرون إلي وأفرجهم على نفسي. وللمترجم أخبار وسير ووقائع لو سطرت لكانت سيرة مستقلة خصوصًا وقائعه وسياحته ثلاث سنوات وثلاثة أشهر أيام أقام الفرنساوية بالقطر المصري ورحلته بعد ذلك إلى بلاد الإنكليز وغيابه بها سنة وشهورًا وقد تهذبت أخلاقه بما اطلع عليه من عمارة بلادهم وحسن سياسة أحكامهم وكثرة أموالهم ورفاهيتهم وصنائعهم وعدلهم في رعيتهم مع كفرهم بحيث لا يوجد فيهم فقير ولا مسجد ولا ذو فاقة ولا محتاج وقد أهدوا له هدايا وجواهر وآلات فلكية وأشكال هندسية واسطرلابات وكرات ونظارات وفيها ما إذا نظر الإنسان فيها في الظلمة يرى أعيان لأشكال كما يراها في النور ومنها لخصوص النظر في الكواكب فيرى بها الإنسان الكوكب الصغير عظيم الجرم وحوله عدة كواكب لا تدرك بالبصر الحديد ومن أنواع الأسلحة الحربية أشكال تدور بحركات فيظهر منها أصوات مطربة على إيقاع الأنغام وضروب الألحان وبها نشانات وعلامات لتبديل الأنغام بحسب ما يشتهي السامع إلى غير ذلك نهب ذلك جميعه العسكر الذين أرسلهم إليه البرديسي ليقتلوه وطفقوا يبيعونه في أسواق البلدة وأغلبه تكسر وتلف وتبدد. وأخبرني بعض من خرج لملاقاته عند منوف العليا أنه لما طلع إليها وقابله سليمان بك البواب أخلى له الحمام في تلك الليلة وكان قد بلغه كافة أفعاله بالمنوفية من العسف والتكاليف وكذا باقي إخوانه وأفعالهم بالأقاليم فكان مسامرتهم معه تلك الليلة في ذكر العدالة الموجبة لعمار البلاد ويقول لسليمان بك في التمثيل الإنسان الذي يكون له ماشية يقتات هو وعياله من لبنها وسمنها وجبنها يلزمه أن يرفق بها في العلف حتى تدر وتسمن وتنتج له النتاج بخلاف ما إذا أجاعها وأجحفها وأتعبها وأشقاها وأضعفها حتى إذا ذبحها لا يجد بها لحمًا ولا دهنًا فقال هذا ما اعتدناه وربينا عليه فقال إن أعطاني الله سيادة مصر والإمارة في هذا القطر لأمنعن هذه الوقائع وأجري فيه العدل ليكثر خيره وتعمر بلاده وترتاح أهله ويكون أحسن بلاد الله ولكن الإقليم المصري ليس له بخت ولا سعد وأهله تراهم مختلفين في الأجناس متنافوي القلوب منحرفي الطباع فلم يمض على هذا الكلام إلا بقية الليل وساعات النهار حتى أحاطوا به وفر هاربًا ونجا بنفسه وجرى ما تقدم ذكره من اختفائه وظهوره وانتقاله إلى الجهة القبلية واجتماع الجيوش عليه وحكمت عليه الصورة التسي ظهر فيها وحصل له ما حصل. وأخبرني من اجتمع عليه في البحيرة وسامره فقال يا فلان والله يخيل لي أن أقتل نفسي ولكن لا تهون علي وقد صرت الآن واحدًا بين ألوف من من الأعداء وهؤلاء قومي وعشيرتي فعلوا بي ما فعلوا وتجنبوني وعاودني من غير جرم ولا ذنب سبق مني في حقهم وأشقوني وأشقوا أنفسهم وملكوا البلاد لأعدائي وأعدائهم وسعيت واجتهدت في مراضاتهم ومصالحتهم والنصح لهم فلم يزدهم ذلك إلا نفورًا وتباعدًا عني ثم هذه الجنود ورئيسهم الذين ولجوا البلاد وذاقوا حلاوتها وشبعوا بعد جوعهم وترفهوا بعد ذلهم يجيشون علي ويحاربوني ويكيدوني ويقاتلوني ثم أن هؤلاء العربان المجتمعين علي أصانعهم وأسوسهم وآغاضبهم وأراضيهم وكذلك جندي ومماليكي وكل منهم يطلب مني رياسة وإماؤة ويظنون بغفلتهم أن البلاد تحت حكمي ويظنون أني مقصر في حقهم فتارة أعاملهم باللطف وتارة أزجرهم بالعنف فأنا بين الكل مثل الفريسة والجميع حولي مثل الكلاب الجياع يريدون نهشي وأكلي وليس بيدي كنوز قورن فأنفق على هؤلاء الجموع منها فيضطرني الحال إلى التعدي على عبد الله وأخذ أموالهم وأكل مزارعهم ومواشيهم فإن قدر الله لي بالظفر عوضت عليهم ذلك ورفقت بحالهم وإن كانت الأخرى فالله يلطف بنا وبهم ولا بد أن يترحموا علينا ويسترضوا عن ظلمنا وجورنا بالنسبة لما يحل بهم بعدنا. وبالجملة فكان آخر من أدركنا من الأمراء المصريين شهامة وصرامة ونظرًا في عوافب الأمور وكان وحيدًا في نفسه فريدًا في أبناء جنسه وبموته اضمحلت دولتهم وتفرقت جمعيتهم وانكسرت شوكتهم وزادت نفرتهم وما زالوا في نقص وإدبار وذلة وهوان وصغار ولم تقم لهم بعده راية وانفرضوا وطردوا إلى أقصى البلاد في النهاية. وأما مماليكه وصناجقه فإنهم تركوا نصيحته ونسوا وصيته وانضموا إلى عدوهم وصادقوه ولم يزل بهم حتى قتلهم وأبادهم عن آخرهم كما سيتلى عليك خبر ذلك فيما بعد. وكانت صفة المترجم معتدل القامة أبيض اللون مشربًا بحمره جميل الصورة مدور اللحية أشقر الشعر وقد خطه الشيب مليح العينين مقرون الحاجبين معجبًا بنفسه مترفهًا في زيه وملبسه كثيرًا الفكر كتومًا لا يبيح بسر ولا لأعز أحبابه إلا أنه لم يسعفه الدهر وجنى عليه بالقهر وخاب أمله وانقضى أجله وخانه الزمان وذهب في خبر كان ومات وله من العمر نحو الخمسة والخمسين سنة غفر الله له. وأما
الأمير عثمان بك البرديسي المرادي وسمي البرديسي لأنه تولى كشوفية برديس بقبلي فعرف بذلك واشتهر به تقلد الأمرية والصنجقية في سنة عشر ومائتين وألف وتزوج ببنت أحمد فعرف بذلك واشتهر به تقلد الأمرية والصنجقية في سنة عشر ومائتين وألف وتزوج ببنت أحمد كتخدا علي وهي أخت علي كاشف الشرقية وعمل لها مهما وذلك قبل أن يتقلد الصنجقية وسكن بدار علي كتخدا الطويل بالأزبكية واشتهر ذكره وصار معدودًا من جملة الأمراء ولما قتل عثمان بك البرديسي المرادي بساحل أبو قير ورجع من رجع إلى قبلي كان الألفي إلى بلاد الإنكليز تعين المترجم بالرياسة على خشدشينه مع مشاركة بشنك بك الذي عرف بالألفي الصغير فلما حضروا إلى مصر في سنة ثمان عشرة بعد خروج محمد باشا خسرو وقتل طاهر باشا انضم إليه محمد علي باشا وكان إذ ذاك سرششمة العساكر وتواخى معه وصادقه ورمح في ميدان غفلته وتحالفا وتعاهدا على المحبة والمصافاة وعدم خيانة أحدهما للآخر وأن يكون محمد علي باشا وعساكره الأروام أتباعًا له وهو الأمير المتبوع فانتفخ جأشه لأنه كان طائش العقل مقتبل الشبيبة فاغتر بظاهر محمد علي باشا لأنه حين عمل شغله في مخدومه محمد باشا وبعده طاهر باشا دعا الأمراء المصريين وأدخلهم إلى مصر وانتسب إلى إبراهيم بك الكبير لكونه رئيس القوم وكبيرهم وعين لإبراهيم بك خرجًا وعلوفة مثل أتباعه وسبره واختبره فلم ترج سلعته عليه ووجده حريصًا على دوام التراحم والألفة والمحبة وعدم التفاشل في عشيرته وأبناء جنسه متحرزًا من وقوع ما يوجب التقاطع والتنافر في قبيلته فلما أيس منه مال عنه وانضم إلى المترجم واستخفه واحتوى على عقله وصاحبه وصادقه وصار يختلي معه ويتعاقر معه الشراب ويسامره ويسايره حتى باح له بما في ضميره من الحقد لإخوانه وتطلب الانفراد بالرياسة فصار يقوي عزمه ويزيد في إغرائه ويعده بالمعاونة والمساعدة على إتمام قصده ولم يزل به حتى رسخ في ذهن المترجم نصحه وصدقه كل ذلك توصلًا لما هو كامن في نفسه من إهلاك الجميع ثم أشار عليه ببناء أبراج حول داره التي سكن بها بالناصرية فلما أتمها أسكن بها طائفة من عساكره كأنهم محافظون لما عساه أن يكون ثم سار معه إلى حرب محمد باشا خسرو بدمياط فحاربوه وأتوا به أسيرًا وحبسوه ثم فعلوا بالسيد علي القبطان مثل ذلك ثم كائنة علي باشا الطرابلسي وقتله وقد تقدم خبر ذلك كله وجميعه ينسب فعله للمصريين ولم يبق الإيقاع بينهم فكان وصول الألفي عقب ذلك فأوقعوا به وبجنده ما تقدم ذكره وتفاشلوا وتفرقوا بعد جمعهم وقلوا بعد الكثرة ثم أشار على المترجم المصادق الناصح بتفريق أكثر الجمع الباقي في النواحي والجهات البعض منهم لرصد الألفي والقبض عليه وعلى جنده والبعض الآخر لظلم الفلاحين في البلاد ولم يبق بالمدينة غير المترجم وإبراهيم بك الكبير وبعض أمراء فعند ذلك سلط محمد علي العساكر بطلب علائفهم المنكسرة فعجزوا عنها فأراد المترجم أن يفرض على فقراء البلدة فرضة بعد أن استشار الأخ النصوح وطافت الكتاب في الحارات والأزقة يكتبون أسماء الناس ودورهم ففزعوا وصرخوا في وجوه العسكر فقالوا نحن ليس لنا عندكم شيء ولا نرضى بذلك وعلائفنا عند أمرائكم ونحن مساعدون لكم فعند ذلك قاموا على ساق وخرجت نساء الحارات وبأيديهم الدفوف يغنون ويقولون إيش تأخذ من تفليسي يا برديسي وصاروا يسخطون على المصريين ويترضون عن العسكر وفي الحال أحاطت العسكر ببيوت الأمراء ولم يشعر البرديسي إلا والعسكر الذين أقامهم بالأبراج لتي بناها حوله ليكونوا له عزًا ومنعة يضربون عليه ويحاربونه ويريدون قتله وتسلقوا عليه فلم يسع الجميع إلا الهروب والفرار وخرجوا خروج الضب من الوجار وذهب المترجم إلى الصعيد مذؤمًا مدحورًا مذمومًا مطرودًا وجوزي مجازاة من ينتصر بعدوه ويعول عليه ويقص أجنحته برجليه وكالباحث على حتفه بظلفه والجادع بظفره مأرن أنفه ولم يزل في هجاج وحروب كما سطر في السياق ولم ينتصر في معركة ولم يزل مصرًا على معاداة أخيه الألفي وحاقدًا عليه وعلى أتباعه حريصًا على زلاته وأعظمها قضية القبودان وموسى باشا إلى غير ذلك وكان ظالمًا غشومًا طائشًا سيئ التدبير وقد أوجده الله جل جلاله وجعله سببًا لزوال عزهم ودولتهم واختلال أمرهم وخراب دورهم وهتك أعراضهم ومذاتهم وتشتيت جمعهم ولم يزل خبثه مرض ومات بمنفلوط ودفن هناك. ومات الأمير بشتك بك وهو الملقب بالألفي الصغير وهو مملوك محمد بك الألفي الكبير أمره وجعله وكيلًا عنه مدة غيابه في بلاد الإنكليز وكان قبل ذلك سلحداره وأمر كشافه ومماليكه وجنده بطاعته وامتثال أمره فلما حضر الأمراء المصريون في سنة ثمان عشرة أقام هو بقصر مراد بك بالجيزة فلم يحسن السياسة وداخله الغرور وأعجب بنفسه وشمخ على نظراته وعلى أعمامه الذين هم خشداشون لأستاذه وعلى إبراهيم بك الكبير الذي هو بمنزلة جده وكان مراد بك الذي هو أستاذ أستاذه يراعي حقه ويتأدب معه ويقبل يده في مثل الأعياد ويقول هو أميرنا وكبيرنا وكذلك أستاذ المترجم كان إذا دخل على إبراهيم بك قبل يده ولا يجلس بحضرته إلا بعد أن يأذن له فلم يقتف المترجم في ذلك أسلافه بل سلك مسلك التعاظم والتكبر على الجميع واستعمل العسف في أموره مع الترفع على الجميع وإذا عقدوا أمرًا بدونه حله أو حلوا شيئًا بدونه عقده فضاق لذلك خناق الجميع منه وكرهوه وكرهوا أستاذه وكان هو من جملة أسباب نفورهم من أستاذه وانحراف قلوبهم عنه فلما رجع أستاذه وظهر من اختفائه وبلغه أفعاله مقته وأبعده ولم يزل ممقوتًا عنده حتى مات مبطونًا في حياة أستاذه بناحية قبلي في تلك السنة. ومات غير هؤلاء ممن له ذكر مثل سليمان بك المعروف بأبو دياب بناحية قبلي أيضًا ومات أيضًا أحمد بك المعروف بالهنداوي الألفي في واقعة النجيلة ومات أيضًا صالح بك الألفي وهو أيضًا من تامر في غياب أستاذه من بلاد الإنكليز كان هو متوليًا كشوفية الشرقية وغائبًا هناك فأرسلوا له تجريدة ليقتلوه وكان بناحية شلشلمون فوصله الخبر فترك خيامه وأحماله وأثقاله وهرب واختفى فلما وقعت حادثة الأمراء مع العسكر وخرجوا من مصر هاربين وظهر الألأفي من الوادي ذهب إليه وأمده بما معه من الأموال وذهب مع أستاذه إلى قبلي ولم يزل حتى مات أيضًا في هذه السنة وغير أولئك كثير لم تحضرني أسماؤهم ولا وفاتهم.
|