الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الاختيار لتعليل المختار ***
بسم الله الرحمن الرحيم الجزء الرابع
الأصل في وجوبها قوله تعالى: {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن} [الطلاق: 6] ثم قال: {لينفق ذو سعة من سعته} [الطلاق: 7] وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه (أسكنوهن من حيث سكنتم وأنفقوا عليهن من وجدكم) وقراءته كروايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة: 233] وقال تعالى: {الرجال قوامون على النساء} [النساء: 34] ثم قال: {وبما أنفقوا من أموالهم} [النساء: 34] وروى أبو حمزة الرقاشي عن عمه قال: كنت آخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسط أيام التشريق إذ ودعه الناس فقال: (اتقوا الله في النساء) وذكر الحديث إلى أن قال: (ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف) وقال عليه الصلاة والسلام لهند امرأة أبي سفيان: (خذي من مال زوجك ما يكفيك وولدك بالمعروف) ولولا وجوبها عليه لما أمرها بذلك. وسبب وجوبها احتباسها عند الزوج إذا كان يتهيأ له الاستمتاع وطئا أو دواعيه أو التحصين لمائه بعد زوال النكاح لأنها لما صارت محبوسة عنده في حقه عجزت عن الاكتساب والإنفاق على نفسها، فلو لم تستحق النفقة عليه لماتت جوعا. قال: وتجب للزوجة على زوجها إذا سلمت إليه نفسها في منزله نفقتها وكسوتها وسكناها) لما مر من الدلائل (تعتبر بقدر حاله) لقوله تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله} [الطلاق: 7] كذا اختاره الكرخي، واختار الخصاف الاعتبار بحالهما، فإن كانا موسرين لها نفقة الموسر، وإن كانا معسرين فنفقة المعسر، وإن كانت موسرة وهو معسر فلها فوق نفقة المعسرة، وإن كان بالعكس فدون نفقة الموسرة وإن كان أحدهما مفرطا في اليسار والآخر مفرطا في الإعسار يقضي عليه بنفقة الوسط، والقول قوله في إعساره في حق النفقة لأنه منكر والبينة بينتها لأنها مدعية. قال: (وهو مقدر بكفايتها بلا تقتير ولا إسراف) لما تقدم من حديث هند، وليس فيها تقدير لازم لاختلاف ذلك باختلاف الأوقات والطباع والرخص والغلاء والوسط خبز البر والإدام بقدر كفايتها (ويفرض لها نفقة كل شهر وتسلم إليها) لأنه يتعذر القضاء بها كل ساعة، ويتعذر لجميع المدة فقدرناه بالشهر لأنه الوسط وهو أقرب الآجال (والكسوة كل ستة أشهر) لأنه يحتاج إليها في كل ستة أشهر باختلاف الحر والبرد. وللزوج أن يلي الإنفاق بنفسه، إلا أن يظهر عند القاضي أنه لا ينفق عليها فيفرض لها كل شهر على ما بينا، ويقدر النفقة بقدر الغلاء والرخص في كل وقت، ولا يقدر بالدراهم والدنانير؛ ولو صالحته من النفقة على ما لا يكفيها كملها القاضي إن طلبت ذلك، وإن كان الرجل صاحب مائدة لا يفرض عليه النفقة ويفرض الكسوة. قال: (ويفرض لها نفقة خادم واحد) وليس له أن يعطيها من خدمه من يخدمها بغير رضاها. وقال أبو يوسف: يفرض لخادمين لأنها تحتاج إلى أحدهما لداخل البيت والآخر لخارجه. لهما أن الواحد يكفي لذلك فلا حاجة إلى اثنين حتى قيل لو كفاها بنفسه لم يلزمه نفقة خادم؛ وقيل إن كانت من بنات الأشراف فلها نفقة خادمين أحدهما للخدمة والآخر للرسالة وأمور خارج البيت. وروى الحسن عن أبي حنيفة: إن كان الزوج معسرا لا يفرض لها نفقة خادم أصلا، وإن لم يكن لها خادم لا يفرض لها نفقة خادم، وكذا إذا كانت فقيرة وتخدم نفسها، رواه الحسن عن أبي حنيفة؛ وكسوة الصيف قميص ومقنعة وملحفة؛ وفي الشتاء مع ذلك جبة وسراويل على قدر حاله؛ وعلى الموسر درع سابوري وخمار إبريسم وملحفة كتان، وتزاد في الشتاء جبة ولحافا، وإن طلبت فراشا تنام عليه لها ذلك، لأن النوم على الأرض ربما يؤذيها ويمرضها، وما تغطي به دفعا للحر والبرد ويختلف ذلك باختلاف العادات والبقاع، ولخادمها قميص كرباس وإزار في الصيف، وفي الشتاء قميص وإزار وجبة وكساء وخفان، فإن امتنعت الخادمة عن الخدمة لا نفقة لها. لأنها مقابلة بالخدمة، بخلاف الزوجة لأنها مقابلة بالحبس لا غير؛ ولا تجبر المرأة على الطبخ والخبز إذا امتنعت، ويأتيها بمن يخبز ويطبخ، لأن الواجب عليه الطعام، قالوا: وهذا إذا كانت لا تقدر على ذلك، أو كانت من بنات الأشراف، وإن كانت تقدر وتخدم نفسها تجبر عليه لأنها متعنتة. قال: (فإن نشزت المرأة فلا نفقة لها) لما روي (أن فاطمة بنت قيس نشزت على أحمائها فنقلها عليه الصلاة والسلام إلى بيت ابن أم مكتوم ولم يجعل لها نفقة ولا سكنى) ولأن الموجب للنفقة الاحتباس وقد زال، بخلاف ما إذا امتنعت من التمكين لأنه لا يفوت الاحتباس وهو يقدر عليه كرها، فإن عادت إلى منزله عادت النفقة لعود الاحتباس (وإن منعت نفسها حتى يوفيها مهرها فلها النفقة) لأن لها الامتناع لتستوفي حقها، فلو سقطت النفقة تتضرر، والضرر يجب إلحاقه بالزوج الظالم الممتنع عن إيفاء حقها، ولأن المنع بسبب من جهته فصار كالعدم، وسواء كان قبل الدخول أو بعده، وقالا: إن كان بعد الدخول فلا نفقة لها لأنها سلمت المعوّض فليس لها أن تمنعه لقبض العوض كالبائع إذا سلم المبيع. ولأبي حنيفة أنها سلمت بعض المعوض لأن المهر مقابل بجميع الوطئات على ما تقرر في كتاب النكاح، فالبائع إذا سلم بعض المبيع له حبس الباقي كذا هذا. (ولو كانت كبيرة والزوج صغيرة فلها النفقة، وبالعكس لا) أما الأول فلأنها سلمت نفسها والعجز من جهته فصار كالمجبوب والعنين، وأما الثاني فالمرأة صغيرة لا يستمتع بها لأن المراد من الاحتباس ما يكون وسيلة إلى المقصود من النكاح وأنه ممتنع بسبب منها فصار كالعدم (ولو كانا صغيرين فلا نفقة لها) لما مر، ولو سكن دارا غصبا فامتنعت أن تسكن معه فليست بناشزة لأنها امتنعت بحق؛ وإن كانت ساكنة في دارها فمنعته من دخولها وقالت: حولني إلى منزلك أو اكتر لي دارا فلها النفقة لما بينا. قال: (ولو حجت أو حبست بدين أو غصبها غاصب فذهب بها فلا نفقة لها) لزوال الاحتباس لا من جهته. وعن أبي يوسف أن الحج الفرض لا يسقط النفقة ذكره في الأمالي لأنه عذر، لكن تجب نفقة الحضر لأنها المستحقة فيعطيها نفقة شهر والباقي إذا رجعت (وإن حج معها فلها نفقة الحضر) لأنها كالمقيمة في منزله ولا يجب عليه الكراء. (وإن مرضت في منزله فلها النفقة) وكذلك إذا جاءت إليه مريضة لأن الاحتباس موجود فإنه يستأنس بها وتحفظ متاعه ويستمتع بها لمسا وغيره، ومنع الوطء لعارض كالحيض والنفاس، والقياس أن لا نفقة لها إذا كان مرضا يمنع الجماع كالصغيرة. وعن أبي يوسف إن مرضت عنده لها النفقة لأنه صح التسليم، ولو سلمت إليه مريضة لا نفقة لها لأن التسليم ما صح، وقوله مرضت في منزله إشارة إليه وإذا طالبته بالنفقة قبل أن يحولها إلى منزله وهي بالغة فلها النفقة إذا لم يطالبها بالنقلة، لأن النقلة حقه والنفقة حقها، فلا يسقط حقها بتركه حقه، فإن طالبها بالنقلة فامتنعت فلا نفقة لها إلا أن يكون بحق على ما بينا. قال: (وللأمة والمدبرة وأم الولد النفقة إن بوأها مولاها بيت الزوج) لوجود الاحتباس (وإلا فلا) لعدمه (فإن بوأها ثم استخدمها سقطت) النفقة لفوات الاحتباس. قال: (ومن أعسر بالنفقة لم يفرق بينهما وتؤمر بالاستدانة) لتحيل عليه لأن في التفريق إبطال حقه وفي الاستدانة تأخير حقها والإبطال أضر فكان دفعه أولى، فإذا فرض لها القاضي وأمرها بالاستدانة صارت دينا عليه فيتمكن من الإحالة عليه والرجوع في تركته لو مات، ولو استدانت بغير أمر القاضي تكون المطالبة عليها ولا يمكنها الإحالة عليه ولا ترجع في تركته لأنها لا ولاية لها عليه، فلهذا قال: تؤمر بالاستدانة عليه، ومعنى الاستدانة أن تشتري بالدين. قال: (وإذا قضي لها بنفقة الإعسار ثم أيسر تمم لها نفقة الموسر) لأنها تختلف باختلاف الأحوال، وما فرض تقدير لنفقة لم تجب بعد، فإذا تبدلت حاله لها المطالبة بقدرها، وكذلك لو قضى بنفقة اليسار ثم أعسر فرض لها نفقة المعسر لما بينا. قال: (وإذا مضت مدة لم ينفق عليها سقطت إلا أن يكون قضي بها أو صالحته على مقدارها) فيقضي لها بنفقة ما مضى لأن النفقة لم تجب عوضا عن البضع، لأن المهر وجب عوضا عنه، والعقد الواحد لا يوجب عوضين عن شيء واحد ولا عوضا عن الاستمتاع، لأن الاستمتاع تصرف في ملكه، والإنسان لا يجب عليه شيء بالتصرف في ملكه، فبقي وجوبه جزاء عن الاحتباس صلة ورزقا لا عوضا، لأن الله تعالى سماه رزقا بقوله: {وعلى المولود له رزقهن} [البقرة: 233] والرزق اسم لما يذكر صلة، والصلاة لا تملك إلا بالتسليم حقيقة أو بقضاء القاضي كما في الهبة أو بالتزامه بالتراضي، لأنه لما لزمه بقضاء القاضي فلأن يلزمه بالتزامه كان أولى، لأن ولايته على نفسه أقوى. قال: (فإن مات أحدهما بعد القضاء أو الاصطلاح قبل القبض سقطت) لما بينا أنها صلة، والصلة تسقط بالموت كالهبة قبل القبض. قال: (وإن أسلفها النفقة أو الكسوة ثم مات أحدهما لم يرجع بشيء) وقال محمد: يحتسب لها نفقة ما مضى وما بقي للزوج لأنها استعجلت عوضا عما تستحقه عليه بالاحتباس، وقد بطل استحقاقها بالموت فيبطل من العوض بقدره. ولهما ما بينا أنها صلة، وقد اتصل القبض بها فيبطل الرجوع بالموت كما في الهبة، ألا ترى أنها لو هلكت من غير استهلاك لا يرجع بشيء بالإجماع. قال: (وإذا كان للغائب مال حاضر في منزله أو وديعة أو مضاربة أو دين علم القاضي به وبالنكاح أو اعترف بهما من المال في يده يفرض فيه نفقة زوجته ووالديه وولده الصغير) لأن الذي في يده المال أو عليه لما أقر بالزوجية فقد أقر بثبوت حقها فيه، لأن لها أن تأخذ من مال زوجها حقا من غير رضاه، وإقرار صاحب اليد في حق نفسه صحيح فيقضي القاضي عليه باعترافه، فيقع القضاء عليه أولا ثم يسري إلى الغائب، بخلاف ما إذا جحد أحد الأمرين لأنه إن جحد الزوجية لا تسمع البينة عليه لأنه ليس بخصم في الزوجية، وإن جحد المال فهي ليست خصما في إثباته، وعلم القاضي حجة يجوز له القضاء به في محل ولايته على ما عرف. ونفقة الوالدين والولد الصغير كنفقة الزوجة لأنها تجب بغير قضاء، بخلاف غيرهم من الأقارب حيث لا تجب نفقتهم إلا بالقضاء لما أن وجوبها مختلف فيه. قال: (وهذا إذا كان المال من جنس النفقة) كالدراهم والدنانير والطعام والكسوة لأن لها أن تأخذه بغير رضاه؛ أما إذا كان من خلاف جنسها لا يفرض فيه النفقة لأنه يحتاج إلى بيعه ولا بيع على الغائب. أما عند أبي حنيفة فلأنه لا يباع على الحاضر فكذا على الغائب. وأما عندهما فلأنه إنما يباع على الحاضر لظهور ظلمه بامتناعه ولا كذلك في الغائب. قال: (ويحلفها أنها ما أخذتها ويأخذ منها كفيلا بها) نظرا للغائب واحتياطا له لاحتمال حضوره فيقيم البينة على الطلاق أو على أن أسلفها (وإن لم يعلم القاضي بذلك وأنكر من في يده المال الزوجية أو المال لم تقبل بينتها عليه) لما بينا، وإن لم يكن له مال، وأرادت أن تقيم البينة على الزوجية ليفرض لها القاضي النفقة ويأمرها بالاستدانة عليه لا تقبل لأنه قضاء على الغائب. وقال زفر: تقبل ويقضي بالنفقة، واستحسنوا ذلك للحاجة، وعليه القضاة اليوم وهو مجتهد فيه فينفذ. قال: (وعليه أن يسكنها دارا مفردة ليس فيها أحد من أهله) أما وجوب السكنى فلأنها من الحوائج الأصلية وهي من الكفاية فتجب كالطعام والشراب، وقد قال تعالى:) أسكنوهن} [الطلاق: 6] فكان واجبا حقا لها، وتكون بين قوم صالحين ليعينوها على مصالح دنياها ويمنعونه من ظلمها لو أراد، وليس له أن يشرك معها غيرها، لأنه قد لا تأمن على متاعها ولا تتخلى لاستمتاعها إلا أن تختار ذلك لأنها رضيت بنقص حقها؛ ولو كان في الدار بيوت وأبت أن تسكن مع ضرتها أو مع أحد من أهله إن أخلى لها بيتا منها وجعل له مرافق وغلقا على حدة ليس لها أن تطلب بيتا آخر، وإن لم يكن إلا بيت واحد فلها ذلك. قال: (وله أن يمنع أهلها وولدها من غيره الدخول عليها) لأن المنزل ملكه (لا يمنعهم كلامها والنظر إليها) أي وقت شاء لما فيه من قطيعة الرحم ولا ضرر فيه إنما الضرر في المقام. وقيل لا يمنعها من الخروج إلى الوالدين، وقيل يمنع (ولا يمنعهما من الدخول إليها كل جمعة وغيرهم من الأقارب كل سنة) وهو المختار.
(وللمطلقة النفقة والسكنى في عدتها بائنا كان أو رجعيا) أما الرجعي فلما تقدم أن النكاح قائم بينهما حتى يحل له الوطء وغيره. وأما البائن فلأنها محبوسة في حقه، وهو صيانة الولد بحفظ الماء عن الاختلاط، والحبس لحقه موجب للنفقة كما تقدم. وأما حديث فاطمة بنت قيس أنها قالت: طلقني زوجي ثلاثا فلم يفرض لي رسول الله سكنى ولا نفقة رده عمر وزيد بن ثابت وجابر وعائشة، قال عمر: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت، حفظت أم نسيت، سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: (للمطلقة الثلاث النفقة والسكنى ما دامت في العدة) ويروى (المبتوتة لها النفقة والسكنى) ولأنه ورد مخالفا قوله تعالى: {أسكنوهن} [الطلاق: 6] ومخالفا للإجماع في السكنى، فإن ادعت أنها حامل أنفق عليها إلى سنتين منذ طلقها احتياطا للعدة، فإن قالت: كنت أتوهم أني حامل ولم أحض إلى هذه الغاية: يعني أنها ممتدة الطهر وطلبت النفقة، فلها النفقة ما لم تدخل في حد الإياس لأنها معتدة، فإذا دخلت في حد الإياس استأنفت العدة ثلاثة أشهر. قال: (ولا نفقة للمتوفى عنها زوجها) لأنها محبوسة لحق الشرع لا للزوج فلا يجب عليه، ألا يرى أنه لا يشترط فيها الحيض الذي تعرف به براءة الرحم والحمل الذي هو حقه، ولأن المال انتقل إلى الورثة فلا تجب في مالهم. قال: (وكل فرقة جاءت من قبل المرأة بمعصية كالردة وتقبيل ابن الزوج فلا نفقة لها، وإن جاءت بغير معصية كخيار العتق والبلوغ وعدم الكفاءة فلها النفقة، وإن كانت) الفرقة (من جهة الزوج فلها النفقة بكل حال) لأن النفقة صلة على ما مر، وبعصيان الزوج لا تحرم من النفقة وتحرم بعصيانها مجازاة وعقوبة، ولأنها حبست نفسها بغير حق فصارت كالناشزة، بخلاف ما إذا كان بغير معصية لأنها حبست نفسها بحق وذلك لا يسقط النفقة لما تقدم وكذلك إن وقعت الفرقة باللعان أو الإيلاء أو بالجب والعنة بعد الدخول أو الخلوة لها النفقة لما بينا؛ وإذا طلقت الأمة المبوأة لها نفقة العدة، فإن استخدمها المولى سقطت، وكل امرأة لا نفقة لها يوم الطلاق لا نفقة لها في العدة كالمعتدة من نكاح فاسد؛ والأمة إذا لم يبوئها المولى بيتا إلا الناشزة لأنها محبوسة في حقه؛ والمطلقة إذا لم تطلب نفقتها حتى انقضت عدتها سقطت كالمنكوحة. (وإن طلقها ثلاثا ثم ارتدت سقطت النفقة) لأنها صارت محبوسة في حق الشرع، وهذا إذا خرجت من بيت الزوج للحبس، وما لم تخرج من بيته فلها النفقة (وإن مكنت ابن زوجها لم تسقط) لأن الفرقة تثبت بالطلاق الثلاث ولا أثر للتمكين في ذلك وهي معتدة محبوسة في حقه فتجب النفقة؛ ولو كان الطلاق رجعيا فلا نفقة لها لأن الفرقه جاءت من قبلها بالتمكين وهو معصية فلا تستحق النفقة لما بينا؛ ولو صالح امرأته على نفقة العدة إن كانت بالشهور جاز لأنها معلومة، وإن كانت بالحيض لا يجوز لأنها مجهولة المدة فتكون النفقة مجهولة.
(ونفقة الأولاد الصغار على الأب إذا كانوا فقراء) لقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة: 233] (وليس على الأم إرضاع الصبي) لأن أجرة الإرضاع من نفقته وهي على الأب. قال: (إلا إذا تعينت) بأن لم يجد غيرها أو لا يأخذ من لبن غيرها (فيجب عليها) حينئذ صيانة للصغير عن الهلاك. قال: (ويستأجر الأب من ترضعه عندها) لأن الأجرة عليه والحضانة لها (فإن استأجر زوجته أو معتدته لترضع ولدها لم يجز) لأن الإرضاع مستحق عليها بالأصل، لقوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن ([البقرة: 233] فإذا امتنعت حملناه على العجز فجعلناه عذرا، فإذا أقدمت عليه بالأجر علمنا قدرتها فكان واجبا عليها فلا يحل لها أخذ الأجر على فعل وجب عليها، ولا خلاف في المعتدة الرجعية. وأما المبتوتة فكذلك في رواية لأن النكاح قائم من وجه؛ وقيل يجوز لأن النكاح قد زال بينهما فصارت أجنبية. وذكر الخصاف إذا لم يكن للصبي ولا لأبيه مال أجبرت الأم على الإرضاع وهو الصحيح لأنها ذات يسار في اللبن، فإن طلبت من القاضي أن يقضي لها بنفقة الإرضاع حتى ترجع بها على الأب إذا أيسر فعل كما لو كان معسرا وهي موسرة تجبر على الإنفاق على الصغير ثم ترجع على الأب إذا أيسر، وإن كان للصبي مال روي عن محمد أنه يفرض لها نفقة الإرضاع في مال الصبي. قال: (وبعد انقضاء العدة هي أولى من الأجنبية) فإنها أشفق وفي ذلك نظر للصغير (إلا أن تطلب زيادة أجرة) لما فيه من ضرر الأب، وقيل في قوله تعالى: {لا تضار والدة بولدها} [البقرة: 233] وهو أن ترضى بأجرة المثل فلا يدفع إليها) ولا مولود له بولده ([البقرة: 233] أن يؤخذ منه أكثر من أجر المثل. قال: (ونفقة الآباء والأجداد إذا كانوا فقراء على الأولاد الذكور والإناث) قال تعالى: {فلا تقل لهما أف} [الإسراء: 23]. نهاه عن الإضرار بهما بهذا القدر وترك الإنفاق عليهما عند حاجتهما أكثر إضرارا من ذلك. وقال عليه الصلاة والسلام: (أنت ومالك لأبيك) وقال: (إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه، فكلوا من كسب أولادكم) فإذا كان مال الابن يضاف إلى الأب بأنه كسبه صار غنيا به فتجب نفقته فيه، وقال تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا} [العنكبوت: 8] أي يحسن إليهما، وليس إحسانا تركهما محتاجين مع قدرته على دفع حاجتهما، وقال تعالى في حق الوالدين الكافرين) وصاحبهما في الدنيا معروفا} [لقمان: 15] وليس من المعروف تركهما جائعين وهو قادر على إشباعهما، وهو على الذكور والإناث على السواء في رواية، وهو المختار لاستوائهما في العلة والخطاب، وقيل على قدر الإرث لقوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} [البقرة: 233] ويشترط فقرهم لأن إيجاب نفقة الغني في ماله أولى. رجل معسر له أولاد صغار محاويج وله ابن كبير موسر يجبر على نفقتهم. قال: (ولا تجب النفقة مع اختلاف الدين إلا للزوجة وقرابة الولاد أعلى وأسفل) لإطلاق النصوص، ولأن نفقة الزوجة جزاء الاحتباس كما مر أو بالعقد كالمهر، وذلك لا يختلف باختلاف الدين، ولهذا تجب مع يسارها: وأما قرابة الولاد فلمكان الجزئية، إذ الجزئية في معنى النفس، ونفقة النفس تجب مع الكفر فكذا الجزء، وهذا إذا كانوا ذمة، فإن كانوا حربا لا تجب وإن كانوا مستأمنين لقوله تعالى: {إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين} [الممتحنة: 9] الآية، بخلاف غيرهم من ذوي الأرحام، لأن الإرث منقطع فيما بينهم ولا بد من اعتباره بالنص. قال: (ونفقة ذي الرحم سوى الوالدين والولد تجب على قدر الميراث) كالإخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات، ولا تجب لرحم ليس بمحرم، والأصل فيه قوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} وفي قراءة ابن مسعود (وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك) فذكره الوارث إشارة إلى اعتبار قدر الميراث وليكون الغرم بالغنم (وإنما تجب إذا كان فقيرا به زمانة لا يقدر على الكسب) أما الفقر فلما مر، وأما العجز عن الكسب فلأنه يكون غنيا بكسبه، ولا كذلك الوالدان حيث تجب نفقتهما مع القدرة على الكسب لما يلحقهما فيه من التعب والنصب، والولد مأمور بدفع الضرر عنهما، فيجب عليه أن يدفع عنهما ضرر الاكتساب وذلك بالإنفاق عليهما. قال: (أو تكون أنثى فقيرة) لأنه أمارة الحاجة (وكذا من لا يحسن لخرقه أو لكونه من البيوتات أو طالب علم) لأن العجز عن الاكتساب في حق هؤلاء ثابت، لأن شرط وجوب نفقة الكبير العجز عن الكسب حقيقة كالزمن والأعمى ونحوهما، أو معنى كمن به خرق ونحوه (ونفقة زوجة الأب على ابنه) رواه هشام عن أبي يوسف (ونفقة زوجة الابن على أبيه إن كان صغيرا فقيرا أو زمنا) لأنه من كفاية الصغير. وذكر في المبسوط لا يجبر الأب على نفقة زوجة الابن، ويجب على الابن نفقة خادم الأب إذا احتاج إليه لأن خدمة الأب مستحقة على الابن فكذا نفقة من يخدمه ولا كذلك زوجة الابن. قال: (ولا تجب النفقة على فقير إلا للزوجة والولد الصغير) لقوله تعالى: {ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله ([الطلاق: 7]. وقال: {وعلى المولود له رزقهن} [البقرة: 233] ولأن نفقة الزوجة مجازاة وذلك يجب مع الفقر، ولا يجب لغيرهم مع الفقر لأنها صلة، فلو وجبت للفقير على الفقير لم يكن إيجابها عليه أولى من إيجابها له (والمعتبر الغنى المحرم للصدقة) هو المختار، وعن أبي يوسف أنه قدره بالنصاب. وعن محمد إذا فضل عن نفقة شهر له ولعياله يجب عليه نفقة أقاربه وإن لم يكن له شيء ويكتسب كل يوم درهما يكفيه أربعة دوانيق فإنه ينفق الفضل على أقربائه، ومن له مسكن وخادم وهو محتاج تحل له الصدقة وتجب نفقته على أقاربه، فإن كان في مسكنه فضل يكفيه بعضه يؤمر ببيع البعض وينفق على نفسه، وكذا إذا كانت له دابة نفيسة يؤمر ببيعها ويشتري الأوكس وينفق الفضل؛ ومن كان يأكل من الناس تسقط نفقته عن القريب، وإن أعطوه قدر نصف كفايته يسقط نصف النفقة. وقال أبو يوسف: إذا كان الابن فقيرا كسوبا والأب زمن شاركه في القوت بالمعروف، ومن لم يقدر على الكسب للزمانة أو كان مقعدا يتكفف الناس فنفقته ونفقة ولده في بيت المال؛ ولو كان الأب معسرا والأم موسرة تؤمر الأم بالنفقة على الولد ثم ترجع على الأب إذا أيسر؛ وكذلك إذا كان للأب المعسر أخ موسر يؤمر بالإنفاق على الصغير ثم يرجع على الأب، وكذلك المرأة المعسرة إذا كان زوجها معسرا ولها ابن من غيره موسر أو أخ موسر فنفقتها على زوجها ويؤمر الابن أو الأخ بالإنفاق عليها وترجع على زوجها إذا أيسر، ويحبس الابن أو الأخ إذا امتنع لأن هذا من المعروف، وإذا كان للفقير أب غني وابن غني فالنفقة على الابن لأن شبهته في مال الابن أكثر. قال عليه الصلاة والسلام: (أنت ومالك لأبيك) ويعتبر في نفقة قرابة الولاد الأقرب فالأقرب دون الإرث، لأن الله أوجب النفقة على المولود له وأنه مشتق من الولاد وهو الجزئية والبعضية باعتبار التولد والتفرع عنه، وفي نفقة ذي الحرم المحرم يعتبر كونه أهل الإرث، ويجب بقدر الميراث عند الاجتماع لأنه تعالى أوجبها باسم الوراثة، فقير له ابن وبنت فنفقته عليهما نصفان، ولو كان له بنت وأخ فنفقته على بنته لأنها أقرب. له بنت وابن ابن موسران فنفقته على البنت لأنها أقرب، ولو كان له بنت بنت وابن بنت وأخ موسرون فنفقته على أولاد أولاده دون الأخ لما بينا. فقير له أخ وأخت لأب وأم فالنفقة عليهما بقدر ميراثهما، ولو كان له أخت وعم فعليهما نصفان، ولو كان له أم وجد فعليهما أثلاثا. وروى الحسن عن أبي حنيفة كلها على الجد، ولو كان له أم وجد وأخ فالثلث على الأم والباقي على الجد، وعندهما الباقي على الأخ والجد نصفان. له عم وخال النفقة على العم. له خال وابن عم النفقة على الخال والميراث لابن العم، وفي العمة والخالة ثلثان وثلث. قال: (وإذا باع الأب متاع ابنه في نفقته جاز) وقالا: لا يجوز، وفي العقار لا يجوز بالإجماع (ولو أنفق من مال له في يده جاز) بالإجتماع لأنه ظفر بجنس حقه فله أن يأخذه لأن نفقته واجبة قبل القضاء لما بينا والأم في هذا كالأب. لهما أن البلوغ انقطعت ولايته عنه وعن ماله حتى لا يملك ذلك في حضرته ولا في دين غير النفقة وصار كالأم. وله وهو الاستحسان أن للأب أن يحفظ مال ابنه الغائب كالوصي، وبل أولى لأنه أوفر شفقة وبيع النقلى من باب الحفظ، فإذا باعه فالثمن من جنس حقه وهو نفقته فيأخذ منه حقه، ولا كذلك العقار فإنه محفوظ بنفسه وبخلاف الأم وغيرها من الأقارب لأنه لا ولاية لهم حال صغره، ولا ولاية الحفظ حالة الغيبة مع الكبر فافترقا. قال: (وإذا قضى القاضي بالنفقة ثم مضت مدة سقطت) لأنها إنما وجبت دفعا للحاجة وقد اندفعت، بخلاف الزوجة إذا قضي لها لأنها وجبت مع اليسار لا لدفع الحاجة فلا تسقط بحصول الاستغناء. قال: (إلا أن يكون القاضي أمر بالاستدانة عليه) لأن ولاية القاضي عامة، فكأن الغائب أمره بذلك فتصير دينا في ذمته فلا تسقط. قال: (وعلى المولى أن ينفق على رقيقه) لقوله عليه الصلاة والسلام في حقهم: (أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تعذبوا عباد الله) ولأنهم مشغولون بخدمتهم محبوسون في ملكهم فيجب عليهم الإنفاق عليهم لئلا يهلكوا جوعا (فإن امتنع اكتسبوا وأنفقوا) لأن فيه رعاية للجانبين: جانبه ببقاء ملكه، وجانبهم بدفع حاجتهم (وإن لم يكن لهم كسب) كالزمن والأعمى والجارية المستحسنة التي لا تؤجر. (أجبر على بيعهم) لأن الرقيق من أهل الاستحقاق وفي بيعهم إيفاء حقهم وإيفاء حق المولى بنقله إلى الخلف، ولا يلزم على هذا الإعسار بنفقة الزوجة، لأن نفقتها تصير دينا عليه فتتمكن من مطالبته وحبسه، ولا دين للعبد على مولاه، ولأنه يفوت ملكه في النكاح لا إلى خلف، وههنا يفوت إلى الثمن، على أن البيع هنا يقع باختياره وعقده والفسخ لا بفعله. قال: (وسائر الحيوانات يجبر فيما بينه وبين الله تعالى) لما فيه من إضاعة المال وتعذيب الحيوان، وقد ورد النهي عنهما، وليست من أهل الاستحقاق ليقضي لها بجبر المولى على نفقتها أو بيعها.
في الحضانة وهي من الحضن، وهو ما دون الإبط إلى الكشح، وحضنا الشيء: جانباه، وحضن الطائر بيضه يحضنه: إذا ضمه إلى نفسه تحت جناحه، فكأن المربي للولد يتخذه في حضنه وإلى جنبه، ولما كان الصغير عاجزا عن النظر في مصالح نفسه جعل الله تعالى ذلك إلى من يلي عليهم، ففوض الولاية في المال والعقود إلى الرجال، لأنهم بذلك أقوم وعليه أقدر، وفوض التربية إلى النساء لأنهن أشفق وأحنى وأقدر على التربية من الرجال وأقوى. قال: (وإذا اختصم الزوجان في الولد قبل الفرقة أو بعدها فالأم أحق) لما روي أن امرأة أتت رسول الله عليه الصلاة والسلام فقالت: يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وحجري له حواء، وثديي له سقاء، وزعم أبوه أنه ينتزعه مني، فقال عليه الصلاة والسلام: (أنت أحق به ما لم تنكحي). وروى سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه طلق زوجته أم ابنه عاصم، فتنازعا وارتفعا إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقال له أبو بكر: ريقها خير له من شهد وعسل عندك يا عمر، ودفعه إليها والصحابة حاضرون متكاثرون، ولأنها أقوم بالتربية وأقدر عليها من الأب فكان الدفع إليها أنظر للصبي، وكل من له حضانة لا يدفع إليه الولد ما لم يطلبه فعساه يعجز عنه، بخلاف الأب إذا امتنع عن أخذه بعد الاستغناء عن الحضانة حيث يجبر على أخذه إذا امتنع، لأن الصيانة عليه. قال: (ثم أمها ثم أم الأب ثم الأخت لأبوين ثم لأم ثم لأب، ثم الخالات كذلك، ثم العمات كذلك أيضا، وبنات الأخت أولى من بنات الأخ، وهن أولى من العمات) والأصل في ذلك أن هذه الولاية تستفاد من قبل الأمهات لما قدمناه، فكانت جهة الأم مقدمة على جهة الأب، ولأن الجدات أقرب من الأخوات، والأخوات أقرب من الخالات والعمات. وروى محمد عن أبي حنيفة أن الخالة مقدمة على الأخت لأب. لأن الخالة بمنزلة الأم، قال عليه الصلاة والسلام: (الخالة والدة) والخالات مساويات للعمات في القرب، وإنما تقدم الخالات لأن قرابتهن من جهة الأم، وتقدم من كانت لأب وأم لأنها تدلي بجهتين فتكون أولى ثم من الأم ثم من الأب ترجيحا لقرابة الأم، ولا حق لمن لهن رحم غير محرم كبنات الأعمام والعمات وبنات الأخوال والخالات. قال: (ومن لها الحضانة إذا تزوجت بأجنبي سقط حقها) لقوله عليه الصلاة والسلام: (أنت أحق به ما لم تنكحي) وفي رواية (ما لم تتزوجي) وفي حديث أبي بكر (أمه أولى به ما لم يشب أو تتزوج) ولأن الصبي يلحقه من زوج أمه جفاء فيسقط حقها للمضرة، لأن حقها إنما يثبت في الحضانة لشفقتها نظرا له، فإذا زالت زال، بخلاف ما إذا تزوجت بذي رحم محرم من الصبي حيث لا تسقط لشفقته عليه كما إذا تزوجت الأم بعمه والجدة بالجد لأنه لا يلحقه جفاء من جده وعمه. قال: (فإن فارقته عاد حقها) لأن المانع قد زال (والقول قول المرأة في نفي الزوج) لأنها تنكر بطلان حقها في الحضانة. قال: (ويكون الغلام عندهن حتى يستغني عن الخدمة) فيأكل وحده ويشرب وحده ويلبس وحده ويستنجي وحده، وقدره أبو بكر الرازي بتسع سنين، والخصاف بسبع اعتبارا للغالب، وإليه الإشارة بقول الصديق رضي الله عنه: هي أحق به حتى يشب، ولأنه إذا استغنى يحتاج إلى التأدب بآداب الرجال والتخلق بأخلاقهم وتعليم القرآن والعلم والحرف، والأب على ذلك أقدر فكان أولى وأجدر. قال: (وتكون الجارية عند الأم والجدة حتى تحيض وعند غيرهما حتى تستغني) وقيل حتى تشتهي، لأن الجارية بعد الاستغناء تحتاج إلى التأدب بآداب النساء وتعلم أشغالهن، والأم أقدر على ذلك، فإذا بلغت احتاجت إلى الحفظ والصيانة، والأب على ذلك أقدر؛ وأما غير الأم والجدة فلأنها لا تقدر على استخدامها فلا يحصل التأدب، ولا كذلك الأم والجدة. وعن محمد إذا بلغت حدا تشتهي يأخذها الأب من الأم للحاجة إلى الحفظ. وسئل محمد: إذا اجتمع النساء ولهن أزواج؟ قال: يضعه القاضي حيث شاء لأنه لا حق لهن كمن لا قرابة له. قال: (وإذا لم يكن للصغير امرأة أخذه الرجال) صونا له (وأولاهم أقربهم تعصيبا) لأن الولاية عليه بالقرب. وكذلك إذا استغنى عن الحضانة، فالأولى بالحفظ أقربهم تعصيبا. قال: (ولا تدفع الصبية إلى غير محرم) كابن العم ومولى العتاقة خوفا من الوقوع في المعصية (ولا إلى محرم ماجن فاسق) لأنه لا يؤمن فسقه فإن لم يكن لها إلا ابن عم فإن شاء القاضي ضمها إليه إن كان أصلح، وإلا وضعها عند أمينة؛ ولو كان الأخ مخوفا عليها يضعها القاضي عند امرأة ثقة. الثيّب المأمونة لها حق التفرد بالسكنى، فإن لم تكن مأمونة فالأب يضمها إليه، وليس للبكر حتى التفرد، فإن دخلت في السن وكان لها رأي فلها أن تنفرد. قال: (وإذا اجتمع مستحقو الحضانة في درجة واحدة فأورعهم أولى ثم أكبرهم، ولا حق للأمة وأم الولد في الحضانة) لأنها من باب الولاية وليستا من أهلها، فإذا أعتقتا فهما كالحرة (والذمية أحق بولدها المسلم ما لم يخف عليه الكفر) لأن النظر له في حضانتها قبل ذلك وبعده عليه فيه الضرر. قال: (وليس للأب أن يخرج بولده من بلده حتى يبلغ حد الاستغناء) لما فيه من إبطال حق الأم من الحضانة (وليس للأم ذلك إلى أن تخرجه إلى وطنها وقد وقع العقد فيه) لأن التزوج فيه دليل المقام فيه ظاهرا فقد التزم المقام في بلدها، وإنما لزمها اتباعه بحكم الزوجية، فإذا زالت الزوجية جاز لها أن تعود إليه لأنه رضي بذلك (إلا أن يكون تزوجها في دار الحرب وهو وطنها) لأنه ضرر بالصبي لأنه يتعود أخلاق الكفار وربما يألفهم، وإذا أرادت أن تخرجه إلى بلدها ولم يقع العقد فيه ليس لها ذلك، لأنه لم يلتزم ذلك لأنه لم يلتزم لها المقام فيه فلا يجوز لها التفريق بينه وبين الولد من غير التزامه. وعن شريح: إذا تفرقت الدار فالعصبة أحق بالولد، وإن كان العقد في غير وطنها فأرادت أن تنقله إليه ليس لها ذلك، لأنه دار غربة كالبلد الذي فيه الزوج، وإذا تساويا لم يجز لها نقله، وقيل لها ذلك لأن العقد وجد فيه فيوجب أحكامه فيه فلا بد في النقلة من الوطن ووقوع العقد فيه، وهذا إذا كان بين المصرين مسافة، أما إذا كان بينهما ما يمكن الأب الاطلاع عليه ويبيت في منزله فلا بأس به، لأنه لا يلحقه بذلك ضرر، وصار كالنقلة من محلة إلى أخرى في المصر المتباعد الأطراف، والقريتان كالمصرين، وكذا لو انتقلت من القرية إلى المصر، لأن فيه نظرا للصغير حيث يتخلق بأخلاق أهل المصر، وبالعكس لا، لأن أخلاق أهل السواد أجفى فكان فيه ضرر بالصبي فلا يجوز.
وهو في اللغة: القوة، يقال: عتق الطائر إذا قوي على الطيران، وعتاق الطير: كواسبها لقوتها على الكسب، واعتقت الخمر: قويت واشتدت، ويستعمل للجمال، يقال: فرس عتيق: أي رائع جميل، وسمي الصديق عتيقا لجماله، ويستعمل للكرم، ومنه البيت العتيق: أي الكريم، ويستعمل للسعة والجودة، ومنه رزق عاتق: أي جيد واسع. وفي الشرع: زوال الرق عن المملوك وفيه هذه المعاني اللغوية فإنه بالعتق يقوى على ما لم يكن قادرا عليه قبله من الأقوال والأفعال، ويورثه جمالا وكرامة بين الناس ويزول عنه ما كان فيه من ضيق الحجر والعبودية فيتسع رزقه بسبب القدرة على الكسب. والحرية: الخلاص، والحر: الخالص، ومنه طين حر: خالص لا رمل فيه، وأرض حرة: خالصة من الخراج والنوائب. والتحرير: إثبات الحرية وهو الخلوص في الذات عن شائبة الرق. والرق في اللغة: الضعف، ومنه ثوب رقيق، وصوت رقيق: أي ضعيف. وفي الشرع: ضعف معنوي، وهو العجز عما يقدر عليه الحر من الولايات والشهادات والخروج إلى الحج والجهاد وصلاة الجمعة والجنائز وغيرها من العبادات، وبالإعتاق والتحرير تثبت له القوة على هذه الأفعال وتخلصه عن شوائب الرق والإذلال. وقال القدوري رحمه الله: العتق إسقاط الحق عن الرق، والحقوق تسقط بالإسقاط، فإسقاط الحق عن الرق عتق، وعن استباحة البضع طلاق، وعن الديون براءة، فإنه إذا أسقط حقه عن هذه الأشياء لم يبق شيء يحتاج إلى النقل فيسقط، ولا كذلك الأعيان فإنه لا يصح إسقاط الحق عنها، لأن العين بعد الإسقاط تبقى غير منتقلة فلا يسقط حقه وهو قضية مشروعة وقربة مندوبة. أما شرعيتها فلقوله تعالى: {فتحرير رقبة} [النساء: 92] وقال: {فتحرير رقبة مؤمنة (كلفنا بتحرير الرقبة، ولولا شرعيته لما كلفناه، إذ تكليف ما ليس بمشروع قبيح. والنبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه أعتقوا، والإجماع على شرعيته، وأما الندبية فلقوله تعالى: {فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة} [البلد: 13] والندبية تدل على المشروعية أيضا. وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما مؤمن أعتق مؤمنا في الدنيا أعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار) وسأل أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (علمني عملا يدخلني الجنة، فقال: لئن أقصرت الخطبة لقد عرضت المسألة أعتق النسمة وفك الرقبة، قال: أليسا واحدا؟ قال: لا، عتق الرقبة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها) ثم العتق قد يقع قربة ومباحا ومعصية، فإن أعتقه لوجه الله تعالى أو عن كفارة فهو قربة، وإن أعتقه من غير نية أو أعتقه لفلان فهو مباح وليس بقربة، وإن أعتقه للصنم أو للشيطان فهو معصية. ويستحب أن يكتب له كتابا بالعتق ويشهد عليه به توثقا وخوفا من التجاحد. (ولا يقع إلا من مالك قادر على التبرعات) أما الملك فلقوله عليه الصلاة والسلام: (لا عتق فيما لا يملكه ابن آدم)، وكذلك إذا أضافه إلى ملكه كما مر في الطلاق، وأما كونه قادرا على التبرعات فلأنه تبرع. قال: (وألفاظه: صريح وكناية، فالصريح يقع بغير نية) كما قلنا في الطلاق (وهو قوله: أنت حر، أو محرر، أو عتيق، أو معتق) وإن نوى به الخلوص والقدم صدّق ديانة لا قضاء، لأنه خلاف الظاهر وهو يحتمله (و) قوله: (أعتقتك، أو حررتك) صريح أيضا (و) كذلك (هذا مولاي، أو يا مولاي، أو هذه مولاتي) لأنه يستعمل في المعتق والمعتق فإذا انتفى أحدهما ثبت الآخر ضرورة، ولو نوى النصرة والمحبة صدق ديانة لا قضاء لما بينا، ولو قال: أنت حر من هذا العمل، أو أنت حر اليوم من هذا العمل عتق قضاء لأنه متى صار حرا في شيء صار حرا في كل الأشياء لأن الحرية لا تتجزأ (ويا حر، ويا عتيق) صريح أيضا. (إلا أن يجعل ذلك اسما له فلا يعتق) إلا أن يريد به الإنشاء. قال: (وكذلك إضافة الحرية إلى ما يعبر به عن البدن) وهو كالطلاق في التفصيل والحكم والخلاف والعلة، ولو أعتق جزءا شائعا كالثلث والربع عتق ذلك الجزء عند أبي حنيفة ويسعى العبد في الباقي، وعندهما يعتق كله على ما نبينه؛ ولو قال: بعضك حر أو جزؤك عتق كله عندهما. وعند أبي حنيفة يؤمر بالبيان. ولو قال: دمك حر فيه روايتان. وعن أبي يوسف لو قال لأمته: فرجك حر من الجماع عتقت، ولو قال لعبده: فرجك حر يعتق؛ وقيل لا يعتق لأن فرج المرأة يعبر به عن جميع البدن لا فرج الرجل، قال عليه الصلاة والسلام: (لعن الله الفروج على السروج) والمراد النساء، وفي الإست والدبر الأصح أنه لا يعتق لأنه لا يعبر به عن البدن؛ وفي العنق روايتان. ومما يلحق بالصريح قوله لعبده: وهبت لك نفسك، أو بعتك نفسك فإنه يعتق بغير نية قبل العبد أو لم يقبل، لأن ذلك يقتضي زوال الملك إلى العبد فيزول ملكه بإزالته صريحا، فلم يكن صريحا في العتق لأنه ليس بموضوع لغة، لكنه ملحق بالصريح من حيث إنه يقع بغير نية، وإنما يملك العبد النفسية دون المالية لأنه بغير عوض فيكون إعتاقا فلا يحتاج إلى القبول، حتى لو قال له: بعت منك نفسك بكذا افتقر إلى القبول لمكان العوض. (والكنايات تحتاج إلى النية) لاحتمال اللفظ العتق وغيره فلا يتعين أحدهما إلا بالنية كما قلنا في الطلاق (وذلك مثل قوله: لا ملك لي عليك، ولا سبيل لي عليك، ولا رق، وخرجت من ملكي) لأنه يحتمل لا ملك لي عليك لأني بعتك أو وهبتك، ويحتمل لأني أعتقتك، وكذا سائرها فاحتاج إلى النية، وكذا خليت سبيلك، لا سبيل لي عليك، لأن نفي السبيل يكون بالبيع ويكون بالكتابة ويكون بالعتق فلا يتعين إلا بالنية (وكذا لو قال لأمته: أطلقتك) لأنه بمعنى خليت سبيلك. (ولو قال: طلقتك لا تعتق وإن نوى) وكذلك سائر ألفاظ صريح الطلاق وكناياته، لأن ملك اليمين أقوى من ملك النكاح، وما يزل الأقوى يزل الأضعف بطريق الأولى، أما ما يكون مزيلا للأضعف لا يلزم أن يكون مزيلا للأقوى، ولأن العتق إثبات للقوة على ما قدمناه، والطلاق رفع القيد، وبين الإثبات والرفع تضاد، ولأن صريح الطلاق وكناياته مستعملة لحرمة الوطء، وحرمة الوطء تنافي النكاح ولا تنافي المملوكية فلا يقع كناية عنه، ولو قال لأمته: أنت حر أو لعبده: أنت حرة لا تعتق إلا بالنية، لأنه ليس صريحا فيه، ولو قال: لا حق لي عليك يعتق إذا نوى، وروي ذلك عن أبي حنيفة ومحمد، لأن الحق عبارة عن الملك فكأنه قال: لا ملك لي عليك؛ ولو قال: أنت لله، أو جعلتك خالصا لله، روي عن أبي حنيفة أنه لا يعتق لأن الأشياء كلها لله تعالى بحكم التخليق. وعنهما أنه يعتق لأن الخلوص لله تعالى لا يتحقق إلا بالعتق. قال: (وإن قال هذا ابني أو أبي أو أمي عتق) وكذلك قوله: هذا عمي أو خالي؛ ثم إن كان العبد يصلح والدا أو ولدا وهو مجهول النسب يثبت نسبه أيضا، لأن له ولاية الدعوة والعبد محتاج إلى النسب فيثبت ويعتق بالإجماع، وإن كان لا يصلح والدا في قوله هذا أبي بأن كان أصغر منه، ولا ولدا في قوله هذا ابني بأن كان أكبر منه، أو مقارنة عتق أيضا عملا بمجاز اللفظ وهو الحرية عليه من حين ملكه ولا يثبت النسب لتعذره. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يعتق لأنه كذب، فصار كقوله أعتقتك قبل أن أخلق. ولأبي حنيفة أنه إن تعذر العمل بحقيقته أمكن العمل بمجازه، لأن الحرية ملازمة للبنوة في المملوك والملازمة من طريق المجاز تحرزا عن إلغاء كلام العاقل، بخلاف ما ذكر لأنه لا وجه للمجاز فيه فتعين الإلغاء، ثم قيل لا يشترط تصديق العبد لأن إقرار المالك على مملوكه يصح من غير تصديقه، وقيل يشترط التصديق فيما سوى دعوة البنوة، لأن غير البنوة حمل النسب على غيره فيكون دعوى على العبد يلزمه بعد الحرية فيشترط تصديقه، وإن كان العبد معروف النسب لا يثبت نسبه منه للتعذر، ويعتق عملا بما ذكرنا من المجاز (ولو قال: هذا أخي لم يعتق) في ظاهر الرواية لأنه يراد به الأخ في الدين عرفا وشرعا، قال تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات: 10] وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يعتق لأن ملك الأخ موجب للعتق، والإخوة عند الإطلاق تنصرف إلى النسب (ولو قال: يا ابني أو يا أخي لم يعتق) في ظاهر الرواية. وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يعتق بالنداء إلا بخمسة ألفاظ: يا ابني، يا بنتي، يا عتيق، يا حر، يا مولاي. وقال محمد في النوادر: لا يعتق إلا بالثلاثة الأخيرة، لأن النداء وضع لإعلام المنادى لا لتحقيق معنى النداء في المنادي حتى يقال للبصير يا أعمى، وللأبيض يا أسود، إلا فيما تعارف الناس إثبات العتق به وهي الألفاظ الثلاثة، ولأبي حنيفة أنه تعذر جعله إعلاما لأن المذكور ليس باسم له وضعا فجعلناه لإثبات معنى النداء في المنادى وهو الحرية صونا لكلامه عن الإلغاء؛ ولو قال لعبده: هذه بنتي، أو لأمته: هذا ابني عتق عند أبي حنيفة عملا بالإشارة، وقيل لا يعتق لأن الإشارة والتسمية اجتمعا في جنسين فكانت العبرة للتسمية والمسمى معدوم. (ولو قال: أنت مثل الحر لم يعتق) لأن هذا اللفظ يراد به المشاركة في بعض المعاني عرفا وقد وجد فلا يعتق بالشك. وقال بعض المشايخ: يعتق إذا نوى كقوله لامرأته: أنت مثل امرأة فلان وفلان قد آلى من امرأته إن نوى الإيلاء يصير موليا (ولو قال: ما أنت إلا حر عتق) لأن هذا إثبات من النفي فهو أبلغ في التأكيد كلفظة الشهادة (ولو قال: لا سلطان لي عليك لم يعتق وإن نوى) لأن السلطان عبارة عن اليد، فصار كأنه قال: لا يد لي عليك ونوى لا يعتق، لأن نفي اليد المفردة بالكتابة لا بالعتق (وعتق المكره والسكران واقع) لما مر في الطلاق.
(ومن ملك ذا رحم محرم منه عتق عليه ولو كان المالك صبيا أو مجنونا) لقوله عليه الصلاة والسلام: (من ملك ذا حرم محرم منه فهو حر) وفي رواية (عتق عليه) فينتظم الصغير والكبير والعاقل والمجنون والمسلم والكافر عملا بعموم كلمة (من) ولأنه تعلق به حق العباد وهم الأقرباء، فيدخل فيه الصغير والمجنون كالنفقات وضمان المتلفات، ويدخل فيه كل ذي رحم محرم ولاد وغيره كالإخوة وبنيهم والأعمام والعمات والأخوال والخالات عملا بالإطلاق، وذو الرحم المحرم كل شخصين يدليان إلى أصل واحد بلا واسطة كالأخوين أو أحدهما بواسطة والآخر بغير واسطة كالعم وابن الأخ إلى الجد؛ ولا يعتق بالملك ذو رحم غير محرم، كبني الأعمام والأخوال وبني العمات والخالات، ولا محرم غير ذي رحم كالمحرمات بالصهرية والرضاع، لأن العتق بدون الإعتاق ضرر إلا أنا خالفناه في الرحم المحرم بالنص فبقي الباقي على الأصل. قال: (والمكاتب يتكاتب عليه قرابة الولاد لا غير) وقالا: يتكاتب عليه الأخ ومن في معناه وهو رواية عن أبي حنيفة، لأنه لو كان حرا عتق عليه، فإذا كان مكاتبا يتكاتب عليه كقرابة الولاد. وله أن ملك المكاتب ناقص حتى لا يقدر على الإعتاق والوجوب عند القدرة وقرابة الولاد العتق فيهم من مقاصد الكتابة، فامتنع البيع تحصيلا لمقصود الكتابة. أما حرية الأخ والعم ليست من مقصود الكتابة فلا يظهر فيهما. قال: (ومن أعتق عبده للصنم أو للشيطان عتق وكان عاصيا) لصدور الإعتاق من أهله مضافا إلى محله عن ولاية، ولأن قوله: أنت حر صريح في العتق فيقع، ويلغو قوله للصنم أو للشيطان ويكون عاصيا، لأن ذلك من فعل الكفرة وعبدة الأصنام. قال: (ومن أعتق حاملا عتق حملها معها) لأنه متصل بها فصار كبعض أجزائها، وليس القبض والتسليم فيه شرطا فيصح، بخلاف البيع والهبة حيث لا يصح لاشتراط القبض أو القدرة عليه (وإن أعتق حملها عتق خاصة) لأن العتق لم يرد عليها لتعتق أصالة ولا تعتق تبعا لأنها أصل، ولو أعتقه على مال عتق وبطل المال، لأن المال لا يلزم الحمل لأنه لا ولاية له ولا عليه، ولا يلزم الأم لعدم التزامها، ثم إنما يعرف قيام الحمل وقت العتق إذا جاءت به لأقل من ستة أشهر من يوم العتق لما عرف. قال: (والولد يتبع الأم في الحرية والرق في التدبير) لأن جانب الأم راجح اعتبارا للحضانة (وولد الأمة من مولاها حر) لأنه انخلق من مائه وقد انعلق على ملكه فيعتق عليه (وولد المغرور حر بالقيمة) وهو ما إذا تزوج حر امرأة على أنها حرة فإذا هي أمة، فأولاده منها أحرار وعليه قيمتهم لمولاها على ذلك إجماع الصحابة؛ ولو كان المغرور مكاتبا أو مدبرا أو عبدا فكذلك عند محمد، لأن ما نقل من إجماع الصحابة لا يفصل، وقال: أولادهم أرقاء لحصولهم بين رقيقين فلا وجه إلى حريتهم، بخلاف الأب الحر فإنه أمكن جعل الولد حرا تبعا لأبيه، وإجماع الصحابة لم يرد قولا بل حكموا بذلك في صورة كان الأب حرا فلا يقاس عليه، ولأن العبد لا يعير بكون ولده عبدا والحر يعير فافترقا. قال: (ومن أعتق عبده على مال فقبل عتق ولزمه المال) مثل أن يقول: أنت حر بألف، أو على ألف، أو على أن لي عليك ألفا، أو على أن تعطيني ألفا؛ أو على أن تؤدي إليّ ألفا؛ وإنما شرط قبوله لأنه معاوضة، ومن شرطها ثبوت الحكم بقبول العوض في الحال كالبيع، ولهذا قلنا يعتق إذا قبل لأنه علق العتق بالقبول لا بالأداء، وقوله لزمه المال معناه يصير دينا عليه حتى تصح به الكفالة، واللفظ بإطلاقه ينتظم جميع أنواع المال: النقود والعروض والحيوان، وإن كان بغير عينه لأنه معاوضة مال بغير مال كالنكاح وأخواته، ويتعلق بقبوله في المجلس إن حضره وإن غاب على مجلس علمه، وإن كان التعليق بإذا فهو كالتعليق بمني لا يتوقف بالمجلس وقد عرف في الطلاق. قال: (وإن قال: إن أديت إليّ ألفا فأنت حر صار مأذونا ويعتق بالتخلية بينه وبين الألف، وله أن يبيعه قبل أداء المال) أما صيرورته مأذونا فلأن المولى لما طلب منه أداء المال وطريقة الاكتساب بالتجارة غالبا، فقد أذن له في التجارة دلالة. وأما جواز البيع قبل أداء المال لأنه علق عتقه بأداء جميع المال، فما لم يؤده لم يوجد شرطه فلا يعتق وليس بمكاتب فله بيعه، وأما عتقه بالتخلية فمذهبنا. وقال زفر: لا يعتق إلا بالأداء إليه لأنه الشرط فلا يعتق قبله. ولنا أن هذا تعليق لفظا ومعاوضة مقصودا لأن الألف يصلح عوضا عن العتق حتى لو نص على المعاوضة يصير عوضا فينعقد معاوضة بين الألف والعتق تحصيلا لمقصوده، فباعتبار المعاوضة ينزل المولى قابلا للبدل متى وصل إليه لئلا يتضرر العبد به، وقد رضي المولى بنزول العتق عند وصوله الألف إليه، وبالتخلية قد وصلت إليه فجعلناه تعليقا ابتداء عملا باللفظ دفعا للضرر عن المولى لئلا يخرج من ملكه ولا يسري إلى الولد قبل الأداء معاوضة عند الأداء دفعا للضرر عن العبد حتى يعتق بالأداء على ما بينا ونظيره الهبة بعوض هبة ابتداء بيع انتهاء، ولو أدى البعض أجبر المولى على قبوله ولا يعتق لما قلنا. فإن أدى ألفا اكتسبها قبل التعليق عتق لوجود الشرط ويرجع عليه المولى بمثلها لأنه أداها من مال المولى، وإن أداها من مال اكتسبه بعد التعليق عتق ولا يرجع عليه لأنه مأذون في الأداء منه على ما بينا.
(ومن أعتق بعض عبده عتق وسعى في بقية قيمته لمولاه) وقالا: يعتق كله لأن الإعتاق لا يتجزى عندهما، فإضافة العتق إلى بعضه كإضافته إلى كله كما في الطلاق، وعند أبي حنيفة يتجزى فيقتصر على ما أعتق. لهما قوله عليه الصلاة والسلام: (من أعتق شركا له في عبد فقد عتق كله ليس لله فيه شريك) ولأن الإعتاق إثبات العتق وهو قوة حكمية والقوة لا تتجزى، إذ لا يكون بعضه قويا وبعضه ضعيفا، أو نقول: هو إزالة الرق الذي هو ضعف حكمي، وكل واحد منهما لا يتجزى فصار كالعفو عن القصاص. وله ما روى نافع عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من أعتق شقصا من عبد فعليه عتق كله) وفي رواية (كلف عتق ما بقي) وفي رواية (وجب عليه أن يعتق ما بقي) ولو عتق بنفس الإعتاق لما وجب عليه إعتاقه ولما كلف ذلك، لأن إعتاق المعتق محال. وقال عليه الصلاة والسلام: (من أعتق شركا له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوّم عليه قيمة عدل وأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق). وروى سعيد بن المسيب عن جماعة من الصحابة أنهم قالوا: إذا كان العبد بين رجلين فأعتقه أحدهما فإنه يقوّم عليه بأعلى القيمة ثم يغرم ثمنه ثم يعتق العبد، وعائشة ترفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ولأن الإعتاق إزالة ملكه، والمتصرف إنما يتصرف فيما يدخل تحت ولايته وهو إزالة ملكه فيتقدر به. والأصل أن التصرف يقتصر على موضع الإضافة والتعدي في الطلاق والقصاص لعدم التجزي، أما الملك فلأنه متجز كما في البيع والهبة، ويسمى إعتاقا مجازا لأنه يصير إلى العتق فيحمل حديثهما على ذلك توفيقا بين الأحاديث، وتجب السعاية في الباقي على العبد، لأن مالية الباقي صارت محتبسة عند العبد، ولأن ما بقي منه على ملكه، ووجب إخراجه إلى الحرية بما روينا، ولا يلزمه إزالته بغير عوض فكان له أن يستسعيه، وله أن يعتقه لأنه ملكه لما روينا كالمكاتب. قال: (والمستسعى كالمكاتب) عند أبي حنيفة حتى يؤدي السعاية لأنه تعلق عتقه بأداء المال فلا تقبل شهادته، ولا يرث ولا يورث ولا يتزوج، ويفارق المكاتب في خصلة، وهو أنه لا يرد في الرق لو عجز، لأن الذي أوجب السعاية وقوع الحرية في بعضه وهو موجود بعد العجز؛ وقالا: هو حر مديون، لأن العتق وقع في جميعه بناء على ما تقدم من الأصل في التجزي فهو كسائر الأحرار عندهما، وهذا كما إذا أعتق بعض عبده، أو أعتق بعض الشركاء نصيبه أو بعض الورثة أو الغرماء أو المريض ولم يخرج من الثلث. أما العبد الرهن إذا أعتقه الراهن وهو معسر وسعى العبد فهو حر بالإجماع، لأن الدين على الراهن لا في رقبة العبد، ولهذا يرجع العبد على الراهن بما سعى. قال: (ولو أعتق أحد الشريكين نصيبه عتق، فإن كان قادرا على قيمة نصيب شريكه فاضلا عن ملبوسه وقوت يومه وعياله، فشريكه إن شاء أعتق، وإن شاء دبر، وإن شاء كاتب، وإن شاء ضمن المعتق، وإن شاء استسعى العبد؛ وإن كان معسرا فكذلك إلا أنه لا يضمن) وقالا: ليس له إلا الضمان مع اليسار والسعاية مع الإعسار. والكلام في هذه المسألة في مواضع: أحدها الضمان في حالة اليسار، والدليل عليه ما روي من الأحاديث أن النبي عليه الصلاة والسلام أوجب الضمان على المعتق الموسر فيجب عليه، ولأنه أتلف نصيب الساكت حيث أعجزه عن التصرف فيه بالتمليك فله أن يضمنه، فإذا ضمنه فالمعتق إن شاء أعتق لأنه ملكه بالضمان، وإن شاء استسعى العبد لأنه انتقل إليه بما كان لشريكه من الحقوق، والولاء له في ذلك كله، لأنه هو الذي أعتقه أو عتق على ملكه ويرجع بما أدى على العبد، لأنه لما أدى صار كالشريك الساكت، للساكت ذلك بالسعاية فكذا هذا. والثاني للساكت ولاية الإعتاق لما تقدم أنه على ملكه فله أن يعتق تسوية بينه وبين شريكه، فإذا أعتق كان ولاء نصيبه له. والثالث للساكت أن يستسعي العبد لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أعتق شقصا من مملوك فعليه أن يعتقه كله إن كان له مال). وإن لم يكن له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه، ولأن نصيبه باق على ملكه فله أن يأخذه من العبد لما بينا، فإذا استسعى فولاء نصيبه له أيضا لأنه عتق على ملكه. والرابع له أن يدبر أو يكاتب لأنه لما ثبت أن ملكه باق فيه كان قابلا للتدبير والكتابة، ولأن التدبير نوع إعتاق والكتابة استسعاء منجم ويكون الولاء له أيضا؛ وفي حالة الإعسار إن شاء الساكت أعتق أو دبر أو كاتب أو استسعى لما بينا والولاء له في الوجوه كلها لأنه عتق على ملكه، وهذه المسألة تبتني على تجزي الإعتاق، فلما كان يتجزى عنده تفرعت هذه الأحكام عليه، ولما لم يتجز عندهما عتق كله، فإن كان موسرا يتعين الضمان لأنه أتلف عليه نصيبه وهو موسر، وإن كان معسرا تعذر ضمانه فيستسعي العبد لأن ماليته محتبسة عنده، فله أن يستسعيه كغاصب الغاصب ونحوه، ولا يرجع العبد بما يؤدي بإجماع بيننا، لأن منفعته حصلت للعبد بغير رضى المولى فكان ضمانا بعوض حصل له، ولأنه يسعى لفكاك رقبته لا لقضاء دين على المعتق لأنه معسر لم يلحقه شيء. ولهما أيضا قوله عليه الصلاة والسلام: (من أعتق نصيبه من عبد مشترك إن كان غنيا ضمن وإن كان فقيرا يسعى العبد) قسم والقسمة تنافي الشركة، ويعتبر الإعسار واليسار يوم الإعتاق، حتى لو أعتق وهو موسر فأعسر لا يبطل التضمين، وإن كان معسرا فأيسر لا يثبت له حق التضمين لأنه حق ثبت بنفس العتق فلا يتغير وإن اختلفا في ذلك يحكم الحال، إلا أن يكون بين الخصومة والعتق مدة تختلف فيها الأحوال، فالقول للمعتق لأنه منكر؛ ولو اختلفا في قيمة العبد يوم العتق، فإن كان قائما يقوّم للحال، وإن كان هالكا فالقول للمعتق أيضا، وإن كان الإعتاق سابقا على الاختلاف فالقول له أيضا لأنه منكر للزيادة؛ ولو اختلفا في القيمة ووقت الإعتاق يحكم بالعتق للحال، وعلى هذا التفصيل لو اختلف العبد والساكت في القيمة؛ ولو مات العبد قبل أن يختار الساكت شيئا ليس له إلا التضمين، لأن العتق والسعاية فاتا بالموت. فإذا ضمن رجع المعتق على كسب العبد إن كان له كسب، ولو كان المعتق معسرا فللساكت أن يرجع في أكسابه لأن السعاية تجب بنفس العتق؛ ولو مات المعتق يؤخذ الضمان من ماله إن كان العتق في الصحة، وإن كان في المرض فلا شيء في تركته. وعن محمد يؤخذ من تركته، وهو رواية عن أبي يوسف، لأن ضمان التمليك لا يختلف بالصحة والمرض؛ ولو مات الساكت فللورثة أحد الاختيارات، فإن اختار بعضهم العتق وبعضهم الضمان فلهم ذلك. وروى الحسن عن أبي حنيفة ليس لهم إلا الاجتماع على أحدهما. أعتق نصيبه وهو موسر وشريكه عبد مأذون إن كان مديونا فله خيار التضمين أو السعاية. وإن لم يكن مديونا فالخيار للمولى، وإن كان شريكه صبيا فإن كان له ولي أو وصي إن شاء ضمن وإن شاء استسعى، وإن لم يكن له ولي ينتظر بلوغه أو ينصب له القاضي وليا، وهذا أصل كبير يبتني عليه كثير من مسائل العتق وغيره. قال: (وإذا اشتريا ابن أحدهما عتق نصيب الأب وشريكه إن شاء أعتق وإن شاء استسعى علم أو لم يعلم) وكذا إذا ملكاه بهبة أو صدقة أو وصية، وقالا: يضمن الأب نصف قيمته إن كان موسرا، وإن كان معسرا يسعى الابن في نصف قيمته لشريك أبيه، وعلى هذا إذا اشترياه وقد حلف أحدهما بعتقه إن اشترى نصفه، وإن ملكاه بالإرث فكما قال أبو حنيفة بالإجماع. لهما أن شراء القريب إعتاق على أصلنا، فقد أفسد نصيب الشريك بالإعتاق فصار كعبد بين اثنين أعتق أحدهما نصيبه. ولأبي حنيفة أن شراء القريب إعتاق كما قالا وقد شاركه فيه فقد شاركه في علة الإعتاق فيكون راضيا بإفساد نصيبه فلا يضمن، كما إذا أذن له بالقول، ولا فرق بين العلم وعدمه، لأن الحكم يدار على السبب وهو الشراء، كما إذا أمر رجلا بأكل طعام مملوك للآمر ولم يعلم به؛ ولو اشترى الأجنبي نصفه أولا ثم اشترى الأب النصف الآخر وهو موسر، فالأجنبي إن شاء ضمنه لأنه ما رضي بإفساد نصيبه، وإن شاء استسعى العبد في نصيبه لاحتباس ماليته عنده، وقالا: يضمن الأب نصف قيمته لا غير لما عرف، ولو اشترى نصف ابنه وهو موسر ممن يملك جميعه لم يضمن للبائع شيئا، وقالا: يضمن والأصل ما مر. قال: (ولو قال لعبديه: أحدكما حر ثم باع أحدهما أو عرضه على البيع أو دبره أو مات عتق الآخر) لأنه خرج بالموت عن محلية العتق، وبالبيع عن محلية العتق من جهته، وبالعرض قصد الوصول إلى الثمن وأنه ينافي الحرية وذلك بالبيع، وإذا خرج عن محلية العتق تعين الآخر، وبالتدبير قصد بقاء الانتفاع به إلى حين موته، وأنه ينافي العتق المنجز فيتعين الآخر. قال: (وكذا إذا استولد إحدى الجاريتين) لأن الاستيلاد كالتدبير فيما ذكرنا وبل أقوى؛ ولو قال لعبديه: أحدكما حر ثم قال لواحد بعينه: أنت حر، أو أعتقتك، فإن نوى البيان صدّق ديانة والآخر عبد، وإن لم يكن له نية عتقا؛ ولو قال لعبديه: أحدكما حر، فقيل له: أيهما نويت؟ فقال: لم أعن هذا عتق الآخر فإن قال بعد ذلك: لم أعن هذا عتق الأول أيضا؛ وكذلك طلاق أحدى المرأتين، بخلاف ما إذا قال لأحد هذين عليّ ألف، فقيل له: هو هذا؟ فقال: لا، لا يجب للآخر شيء، والفرق أن التعيين واجب عليه في الطلاق والعتاق، فإذا نفاه عن أحدهما تعين الآخر إقامة للواجب؛ أما الإقرار لا يجب عليه البيان فيه، لأن الإقرار للمجهول لا يلزم حتى لا يجبر عليه، فلم يكن نفي أحدهما تعيينا للآخر، ولو أعتق أحدهما في الصحة ثم بيّن في المرض يعتق من جميع المال لأنه أنشأ عتقا مستحقا عليه فيعتبر من جميع المال كالكفارة. ولو مات قبل البيان عتق من كل واحد نصفه لعدم الأولوية، ولا يقوم الوارث مقامه في البيان. (ولو قال لأمتيه: إحداكما حرة ثم وطئ إحداهما لا تعتق الأخرى) وقالا: تعتق لأن الوطء لا يحل إلا في الملك، وإحداهما حرة فكان بالوطء مستبقيا للملك في الموطوءة فتتعين الأخرى كما في طلاق إحدى المرأتين. ولأبي حنيفة أن الإيقاع في المنكرة والوطء في المعينة وهما متغايران فلا يجعل بيانا؛ ثم قيل العتق غير نازل قبل البيان لتعلقه به، ولهذا يملك المولى كسبهما وعقرهما وأرشهما، ويحل له وطؤهما عنده ولا يفتي به، وينزل العتق في إحداهما عند البيان، وما دام الخيار للمولى فيهما فهما كأمتين. وقيل إنه نازل في المنكرة وإنما يظهر في حق حكم يقبله والوطء يقع في المعينة فلا تتعين الأخرى، بخلاف الطلاق، لأن المقصود الأصلي من النكاح الولد، فبالوطء قصد الولد، فدل على استبقاء الملك في الموطوءة صيانة للولد، والمقصود من الأمة قضاء الشهوة دون الولد، فلا يدل على الاستبقاء، ولو وطئ وطئا معلقا فهو بيان، ولو استخدم طوعا أو كرها لا يكون بيانا بالإجماع. (ولو شهدا أنه أعتق أحد عبديه أو إحدى أمتيه فهي باطلة) وقالا: تقبل ويجبر على إيقاعه على أحدهما، وفي طلاق إحدى امرأتيه تقبل بالإجماع، ويجبر على أن يطلق إحداهما، وهذا بناء على أن دعوى العبد شرط لقبول الشهادة على عتقه عنده خلافا لهما، ولا يشترط دعوى الأمة والمرأة لقبول الشهادة على حريتها وطلاقها بالإجماع. لهما أن هذه شهادة تعلق بها حق الله تعالى، لأن حقوق الله تعالى تعلق بالحرية من أداء الجمعة الحج والزكاة وغير ذلك، فلا يشترط لها الدعوى كالأمة والحرة، وله أنها شهادة قامت على حقوق العباد فيشترط لها الدعوى كسائر حقوقهم، وهذا لأن معظم المقصود من العتق ونفعه يقع للعبد لأنه يتأهل به للولايات والقضاء والشهادات، ويرتفع عنه بذلك ذل المليكة ويصير مالكا إلى غير ذلك من المنافع، بخلاف الأمة والزوجة فإنه يتضمن تحريم الفرج وأنه حق الله تعالى حتى لو لم يتضمن تحريم الفرج لا يقبل بأن كانت الشهادة على عتق إحدى الأمتين بغير عينها فافترقا. فإذا كانت الدعوى شرطا لقبول الشهادة عنده وهذا الشرط لم يوجد هنا لا تقبل، لأن المشهود له مجهول والدعوى من المجهول لا تتحقق، ولما لم تكن شرطا عندهما قبلت الشهادة من غير دعوى فيجبره القاضي على التعيين. وأما الشهادة على عتق إحدى الأمتين فلأن الدعوى وإن لم تكن شرطا في عتق الأمة فإنما لم تقبل لأنها لا تقتضي تحريم الفرج فصارت كالشهادة على أحد العبدين، وهذا إذا شهد عليه في صحته؛ أما إذا شهد أنه أعتق أحد عبديه في مرض موته أو دبره وأديا الشهادة في مرضه أو بعد موته قبلت استحسانا، لأن العتق في المرض وصية، وكذلك التدبير وصية والخصم معلوم، لأن العتق يشيع بالموت فيهما فصار كل واحد منهما متعينا.
|